برواز كبير يتوسط جدار صالون المنزل، يحتضن داخله صورة لطفليه نورهان ومحمد، يدقق النظر فيهما جيداً ثم يقول: «نفسى نورهان تطلع دكتورة ومحمد يبقى مهندس»، أحلام بسيطة تراود ياسر سلامة، العامل فى شركة مصر للغزل والنسيج، وتلك الأحلام لم تولد مع طفليه ولكنها سبقتهما بكثير، حين كان ابن 17 عاماً واضطرته ظروف أسرته المادية إلى ترك دراسته وعدم حصوله على شهادة الدبلوم الصناعى، فقد وجد نفسه أخاً لسبعة أشقاء والأب بسيط الحال لا يقوى على مصاريف أبنائه الثمانية، وليس هذا وفقط فأخوه الأصغر يحب الدراسة ولا يترك كتبه المدرسية إلا عند النوم، ولكن ضيق الحال يهدده هو الآخر بترك دراسته التى يحبها، فما كان من «ياسر» إلا أن رفض هذا الأمر، ووعد أباه بأن يعمل هو ويساعد أخاه حتى يلتحق بالجامعة، وهو ما حدث حتى صار الأخ الأصغر طبيباً، أما عن نفسه فاكتفى بهذا القدر من التعليم على أن يفعل كل ما بوسعه حين يرزقه الله بأطفال كى يعلمهم حتى يصبحوا أفضل حالاً منه. توظف الشاب الصغير فى الشركة بعقود كانت تسمى حينها «عقود صبية»، لمن كانت أعمارهم تتراوح بين 15 و18 عاماً، وكان راتبه 33 جنيهاً يتقاضاها مقابل عمله لتسع ساعات متواصلة، وتولى تعليمه وتدريبه على الصنعة فى البداية عامل إنتاج يحفظ له جميله حتى الآن، ولم يستغرق أكثر من أسبوعين حتى صار ملماً بالمهنة وبتفاصيلها، ثم انقطع عن الشركة فترة تأديته الخدمة العسكرية، وعاد إليها بعدها ليعين فى قسم التدوير، وزاد راتبه حينها حتى وصل إلى 85 جنيهاً. وهو الآن على مشارف سن الأربعين، قضى منها 25 عاماً عاملا فى شركة مصر للغزل والنسيج، وعلى الرغم من الجهد البدنى الذى تحتاجة مهنته فإنه يترحم على أيام كانت الشركة فيها فى أشد عزها على حد وصفه، قائلاً: «ما كناش بنبطل شغل، وكنا بنصدر منتجاتنا ل180 دولة، دلوقتى مش محصلين 4 دول، وده علشان مفيش أى تطوير بيحصل فى الشركة». يتابع «ياسر»: «إحنا عملنا ثورتين ليه لما الأوضاع هتبقى زى ما هى؟ صحيح إن بعد زيارة رئيس الوزراء المهندس إبراهيم محلب للشركة الشغل بدأ يزيد شوية، لكن احنا لما بنطالب الدولة بزيادات أو صرف حوافز بنتكلم قبلها عن أهمية تطوير الشركة والاستعانة بخبرات تطور من المنتج حتى نستطيع استعادة مكانتنا فى الأسواق العالمية». حبه للشركة يبدو من حماسته فى حديثه عن ضرورة تطويرها، لكن غضبه يبدو أيضاً حينما تحدث عن عدم الاهتمام بالعمال سواء حال مرضهم أو عند إحالتهم للمعاش، يقول: «هناك لائحة داخلية للشركة تلغى من العامل الإضافى وجزءاً من الحوافز وبدل التغذية حال حصوله على إجازة مرضية، ونفاجأ حينها بخصم ما يقرب من 400 جنيه، فهل هذا يعقل أن تكون مكافأة العمال على خدمتهم بهذا الشكل، خاصة أن معظمنا يصاب بالإرهاق الشديد من العمل؟ فأنا على سبيل المثال مطالب بأن أقوم بتعبئة الغزل وتشغيله فى الماكينات، وهذا ليس بالأمر السهل، فعلىَّ لأقوم بهذه المهمة أن أظل ورديتى كلها منحنياً لأخذ الغزل وواقفاً لتعبئته فى الماكينات، أما عندما يصل العامل إلى سن الستين فإنه فى أفضل الأحوال يحصل على 20 ألف مكافأة ولا يتعدى معاشه حينها 600 جنيه». يتابع: «صحيح أننى كنت محظوظاً بأن ترك لى أبى هذا المنزل لأتزوج فيه، لكن زملاء كثيرين يعانون بسبب عدم توفر مساكن بإيجارات تتناسب مع مرتباتهم، على الرغم من أن هناك مساكن خاصة بالشركة، إلا أنه يستلزم الكثير من الحظ أن يحصل العامل على منزل هناك، والأسوأ أنه عندما يحالفه الحظ ويحصل على الشقة يفاجأ بأنها لا تتعدى كونها غرفة واحدة ودورة مياه وصالة صغيرة، وهنا يواجه مشكلة أكبر فكيف سيعيش فيها مع أسرته فى غرفة واحدة؟ نحن لا نطلب أن تمتلك الدولة عصا سحرية لتحل مشكلاتنا ولكننا ننتظر منذ زمن أن تضع قدمها على أولى خطوات الحل الحقيقية، وأتمنى أن يحدث هذا قريباً».