رسالة إلى جورجيا : أميركا لا ترغب أن يكون لها أصدقاء متهورون بول ساونديرس من أهم القضايا التي ما تزال لم تحل بعد في الحرب بين جورجيا وروسيا مصير أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا. وعلى أية حال فالواضح أن الرئيس الجورجي ميخائيل ساكاشفيلي كان قد أمر جيشه بتأكيد سلطته على أوسيتيا الجنوبية عن طريق القوة. وينبغي على المسؤولين الأميركيين التفكير مليا في الآثار المترتبة على سلوك ساكاشفيلي على السياسة الأميركية تجاه جورجيا وروسيا وعلى المنطقة برمتها. وكان ساكاشفيلي قد أمر جيشه بتنفيذ الاعتداء مع علمه أن أوسيتيا الجنوية سوف تقاوم وأن قواته لن تجد بدا من الدخول في مواجهة مع قوات حفظ السلام الروسية ومع علمه كذلك بأن موسكو لديها رغبة جامحة للقيام بهجوم. والواضح أن الرئيس الجورجي كان يعتقد أن قواته تستطيع أن تنفذ احتلالا سريعا لأوسيتيا الجنوبية وأن الرئيس الروسي ميدفيديف ورئيس الوزراء فلاديمير بوتين لن يجرؤوا على التدخل لأن ذلك من شأنه أن يستفز الغرب ولاسيما الولاياتالمتحدة. والمنطق نفسه تقريبا يفسر حسابات تبليسي فيما يتعلق بالسياسة الخارجية منذ فترة طويلة. فعلى مر التاريخ كانت البلدان الضعيفة التي تجاورها بلدان أخرى قوية تسعى بنشاط في طلب حلفاء أقوياء لها. فصربيا على سبيل المثال استعانت بدعم روسيا ضد الامبراطورية النمساوية المجرية وبولندا تحولت الى بريطانيا لردع ألمانيا النازية . وكان ذلك هو التوجه الراسخ لاستراتيجية ساكاشفيلي عندما أرسل جزءا كبيرا من جيش بلاده الصغير نسبيا إلى العراق (وبالطبع فقد بات سبب استدعاء جزء منهم مؤخرا أمرا مفهوما الآن) كما أنه يردد حديث إدارة بوش بشأن القضايا الدولية وخاصة فيما يتعلق بتعزيز الديموقراطية أكثر من أي زعيم آخر في العالم. بيد أنه في النهاية لن يهم الرئيس الجورجي ما إذا كانت الولاياتالمتحدة ديموقراطية أو دينية يحكمها أشخاص قادمون من المريخ طالما كان بوسعه أن يستخدم واشنطن لتغيير ديناميات العلاقة بين جورجيا وروسيا والتصريحات الأخيرة لساكاشفيلي تعكس مدى إيمانه بقدراته في دفع أميركا الى التصرف ، وربما يكون ذلك من خلال مجموعات الضغط المؤيده له في واشنطن. وخللا لقاءات عديدة أجريت معه ومقالات كتبها في الصحف ومنها مقال في واشنطن بوست الخميس الماضي قارن الرئيس الجورجي فيها بين هجوم روسيا الأخير على بلاده والغزو السوفيتي للمجر وتشيكوسلوفاكيا وأفغانستان. واستشهد بالرئيس السابق رونالد ريجان كما حاول أن يصور الحرب على أنها اعتداء روسي على قيم الغرب وعلى حد تعبيره في لقائه مع (سي إن إن) نحن نتعرض للهجوم لأننا نريد أن نكون أحرارا." إلا أن الوضع داخل جورجيا يكذب إدعاءات ساكاشفيلي حول الحرية المزعومة. وربما يكون تعامله مع احتجاجات المعارضة الجورجية الخريف الماضي أحد أوضح النماذج على ذلك. وقد ذكر تقرير وزارة الخارجية الأميركية عن حقوق الإنسان لعام 2007 والذي صدر قبل أشهر قليلة ان هناك مشاكل خطيرة لدى جورجيا في مجال حقوق الإنسان وأشار الى استخدام القوة المفرطة لتفريق المظاهرات وافلات ضباط الشرطة من العقاب وتدني حرية الكلام وحرية الصحافة وحرية التجمع والمشاركة السياسية. تقول آنا دوليدز الناشطة في مجال الديموقراطية والرئيسة السابقة لجمعية المحامين الشبان" أن ساكاشفيلي قام باتخاذ إجراءات سريعة عقب توليه السلطة مباشرة سعى من خلالها إلى تمكين السلطة التنفيذية على حساب البرلمان وإلى تقوية الحكومة من خلال خنق التعبير السياسي والضغط على وسائل الإعلام المؤثرة واستهداف زعماء المعارضة بالانتقاد الشديد بما في ذلك استخدام وكالات تنفيذ القانون. والواقع فإن ساكاشفيلي بعيد كل البعد عن تلك الصورة الديموقراطية التي يريد من الغرب أن يعتقدها فيه. وربما تساعد الحقائق الداخلية لجورجيا في توضيح أن القتال قد اندلع ليس بسبب ما تجسده الدولة في المقام الأول ولكن بسبب تصرفات حكومتها. وكان بمقدور تبليسي أن تتجنب المواجهة بتأجيل مطامعها في اخضاع أوسيتيا الجنوبية وأن تواصل مساعيها من خلال السبل السلمية. ويبدو أن قليلين هم الذين يتذكرون ان الولاياتالمتحدةوروسيا قد عملا جنبا الى جنب مع المعارضة الجورجية في مواجهة الرئيس الجورجي آنذاك إدوارد شيفرنادزه وتسهيل الانتخابات التي جاءت بساكاشفيلي في نهاية المطاف الى السلطة. ومن وجهة النظر الروسية فقد تغير ساكاشفيلي خلال الأعوام الخمسة الماضية كما أن تبليسي باتت أكثر عداء في ظل لجوء ساكاشفيلي إلى التهديد باستخدام القوة لإسقاط حكومة أخرى في منطقة أجاريا التي تخضع للحكم الذاتي وذلك عام 2004. ومع ذلك فليس هناك ما يبرر الإجراءات التي اتخذتها روسيا. إلا أنه وحتى لو أن روسيا كانت تتحين الفرصة التي يقدم فيها ساكاشفيلي مبررا لقيامها بعمل ما فالحماقة كلها على جانب ساكاشفيلي أن يقدم على ما فعله. ومن أسف فالزعيم الجورجي قد سمح لموسكو أن تثبت بكل وضوح أن هناك حدودا للمصالح الأميركية في البلاد المتاخمة للحدود الروسية. والكرملين لديه الكثير على المحك أكثر مما لواشنطن كما أنه يرغب في أن يتعامل بالقوة الشاملة. وإدراكا منها لأبعاد النتائج المحتملة على الصعيد الدولي جراء نشوب خلاف كبير مع روسيا لا ترغب أميركا في تقديم ما هو أكثر من المساعدات الإنسانية بعد ان أعلنت بوضوح ان قواتها لن تقوم بحماية الموانئ والمطارات الجورجية التي تصل إليها المساعدات وأرسلت وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس إلى موقع الأحداث. والواقع فإن السماح بإظهار هذه الحقائق يمثل فشلا ذريعا للسياسة الأميركية كما أنه من شأنه أن يقوض الأهداف الأميركية في جميع أنحاء المنطقة. ويأمل المرء أن تكون إدارة بوش قد أوصلت الى موسكوا بوضوح فيما هو غير معلن أنه مهما كانت إخفاقات ساكاشفيلي فالولاياتالمتحدة لن تتسامح في إقصائه بالقوة ، وأن تكون قد أوصلت كذلك للحكومة الجورجية أن أميركا لا ترغب في أن يكون لها أصدقاء متهورون. نشر في صحف " لوس انجلوس تايمز وواشنطن بوست " ونقلته صحيفة " الوطن " العمانية 19/8/2008