هدوء لا يقطعه شىء سوى مواء قطة تلهو فى المكان كله بحثا عن صاحبها الذى ظل حبيسا فى غرفته منذ أكثر من عام تقريبا، لم يعد يطالع الصحف منذ خمس سنوات حين أصيبت كلتا عينيه بتشوش فى الرؤية، لم يعد يرى شيئا بوضوح، أصبح يطالع الأحداث عبر نشرات الأخبار التى يلتقط منها الكلمات بأذنه عبر التلفاز المقابل له فى الغرفة. قبل ثلاث سنوات تقريبا لم يكن للمرض سيطرة قوية على جسده، اعتاد أن يقرأ يوميا كتابا جديدا فى مكتبته التى تعلو شقته بدور واحد يصعد إليها عبر سلم خشبى فى بهو الشقة، بحماسة المثقف ورقة العازف وعقلية المبدع يلتقط كتابا لكولن ويلسون بعنوان «اللامنتمى»، فكان آخر ما قرأ قبل أن تخونه عيناه. يتذكر تلك الليلة التى أنهى فيها آخر صفحة فى الكتاب وأنهى معها مشواره العمرى مع القراءة، فليلة واحدة كانت كفيلة بأن ينهى معها كتابا من مكتبته العتيقة، لا يهم المجال الذى سيبحر فيه فتوغله فى التاريخ أو الحضارات، وبحثه فى العقيدة، أو قراءاته فى علوم الاجتماع، أو أى من الفنون المختلفة، هو عالم يبنيه بنفسه ويعشق كل ركن فيه، يتذكر آخر عهده بالقراءة بابتسامة كبيرة تكشف عن أسنان تساقطت بفعل الزمن، تتوه ابتسامته لحظة أن يتحدث عن المرض وصحته التى لم تعد قادرة على تحمل شىء حتى لو كان الجلوس دون بذل أى مجهود. «نوح» الذى عاصر سنوات حكم الملك فاروق وجمال عبدالناصر والسادات ومبارك والآن يشهد ميلاد حياة جديدة فى مصر نبعت من ثورة 25 يناير، يجد أن الثورة لم تؤتِ ثمارها وأنها ليست سوى «بروفة» لثورة حقيقية لم تحدث بعد، مبرره فى ذلك هو أن الثوار دائما يحكمون وفى 25 يناير لم يحدث ذلك، وظل الثوار فى الظل رغم أنهم قاموا بثورة لتغيير النظام، واستمر النظام قائما مع تغيير فى الأسماء والمسميات، تلك كانت نظرته للثورة. أما عن أكثر العهود التى يميل إليها، فبرغم صداقته للسادات فى مرحلة حياتية مهمة من عمره، واعتباره أن أخطاء جمال عبدالناصر كانت بقدر عظمته، فإنه يجد أن عهد الملك فاروق كان أفضلها، مشفقا على شخص الملك الذى اقترب منه من خلال ابنه الذى كان دائما يقول: «والدى مظلوم.. والكل ظلمه»، كلمات يتذكرها نوح بعد تجاوزه السبعين بخمس سنوات، ويطلق معها حقيقة واحدة هى أن عهد الملك فاروق من وجهة نظره هو الأفضل. حياته تسير بشكل روتينى اليوم يشبه الآخر هكذا يراه، لا طعم يغير الحياة إذن، فأصدقاؤه الذين عاشوا معه أجمل فترات عمره رحلوا إلى الحياة الأخرى، يتذكرهم جيدا كلما شاهد فيلم «الزوجة الثانية» حين جسد شخصية أخى العمدة علوان، أغلب أبطاله كانوا مقربين إليه وجميعهم «ماتوا».. وحده يعيش على ذكريات الماضى، يتذكر صديق عمره صلاح جاهين ويقول: «كان أخى الروحى.. ومت معه وقت أن رحل عن الدنيا»، يتساءل فى براءة لم تفارق وجهه: «بتشوفى بنته؟ متعرفيش أخبارها إيه؟ سمعت إنها بتمثل فى فرقة شبابية على قدها». حكايات الماضى لا تفارق خياله، تأخذه إلى عالم كلما تذكره قال: «الله يرحمهم»، تغيب البسمة مع غياب الصديق، يطارده الظلام من كل جانب إلى أن يأتيه «نور» يرسم على وجهه البسمة كل يوم بعد أذان العصر، إنه حفيده الأصغر الذى لم يتجاوز العامين بعد، حركته ولعبه بجواره يثيران البهجة فى نفسه، يعتبره الابتسامة الوحيدة فى حياته، وجود «نور» صار شيئا أساسيا يشعر معه «نوح» بفرحة ينتظرها كل صباح، يتحرك الصغير بخفة، تزيل بعضا من آلامه، يتحسسه بيديه، ويظل يداعبه إلى أن يأتى المساء ليغيب «نور» والابتسامة معا. يحتفظ «نوح» ببعض من الذكريات يعلقها على صدر غرفة مقابلة لغرفة نومه، يذهب إليها بمشاية حديدية تسند قدمين أعجزهما المرض عن الحركة، صارت خطواته فى بيته مقلة تقتصر على التحرك إلى الغرفة المجاورة، أو بالأحرى غرفة الذكريات، كلما اشتاق لرؤية تاريخ رحل عنه فى صمت، يدخلها بمساعدة «جمعة» سائقه الخاص، يحاول أن يهون عليه عناء خطوات تتجاوز المتر بمسافات بسيطة، يستند إليه فى ضعف حتى يصل إلى باب الغرفة، يتصدر المكان دروع وشهادات تقدير من شخصيات عامة كان لها شأنها، ومن جهات حكومية تحمل إليه الشكر على أعمال قدمها لهم؛ الكلية الحربية تقدم له وساما، وزوجة السادات تحمل له الشكر عبر خطاب خاص، وشهادة اجتيازه لمرحلة التوجيهية أو الثانوية العامة كما هو اسمها الآن ممهورة بخاتم وزارة المعارف. ضعف نظره وعدم قدرته على الحركة لم يمنعاه من معرفة مكان كل شهادة علقها بنفسه فى غرفة الذكريات، يتذكر الدروع والأوسمة التى زينت المكان فى مكتبة خصصها لها، ويستعيد بعضا من شبابه حين يقول: «كانت أحلى أيام.. غنيت ولحنت واتعلمت.. وعملت تاريخ الكل يعرفه»، لا يجد غضاضة فى ألا يتم تكريمه من الدولة على مجهوداته أو على تاريخه الفنى الحافل بالموسيقى والغناء، فلديه رؤية خاصة يلخصها بكلمات يائسة: «لو كرمونى دلوقتى يبقى إهانة ليا.. هل يعقل أن تنتظر التكريم من جاهل؟». هو لا ينتظر التكريم من أحد، فمنذ أوائل التسعينات وقرار اعتزاله حجبه عن العالم الخارجى ليعيش حبيس مكتبته وفنه وعزلة اختارها لنفسه، لا يخرجه منها سوى بعض الزيارات العائلية التى تأتيه من الحين للآخر، يرافقه فى وحدته زوجته الدكتورة منى التى أنجب منها مريم وهاشم، وكوثر ابنة أخت زوجته، لم يعد ينتظر «نوح» شيئا من أحد، الشىء الوحيد الذى ينتظره ويتمنى أن يخفف عنه الله فيه هو الموت، يقولها بحزن شديد: «أنا مش عايز حاجة تانى من الدنيا.. خلاص بقى كفاية لحد كده»، أمنية وحيدة يقولها بصوت متقطع: «عايز أموت فى سلام». رغم ما تكبده «نوح» من ويلات قرارات النظام البائد فإن قلبه أبى أن يقبل وجود مبارك وأولاده فى السجن، فكما يقول: «إحنا شعب لا نحب الانتقام.. كان كفاية إنه يترك الحكم، أما حبسه أو سجنه شعرت بالحزن لهذا كله لأننا لا نحب الانتقام بطبعنا»، السماحة طبع تعلمه «نوح» بفعل «الصوفية» التى تعمق فيها لفترات، فهو صوفى المشرب يتذكر كلمات محيى الدين بن عربى لتبعث بداخله روح التجلى مع الله، يستشهد بها بين حين وآخر لتكمل نقاء وجه صبور رغم ما أصابه لا تغيب عنه الابتسامة. «الفن» كلمة يتنفسها «نوح» برغم كبر السن ورغم ما يعانيه من ألم، يجدها نبض الحياة وأمله، فبه كانت كلماته التى أشعلت الحماسة فى المواطنين بعد النكسة بأغنيته الشهيرة «مدد»، وبه يرسم البسمة فى نفوس من طغت عليهم الهموم، لكنه الآن يجد أن الفن فى خطر فى ظل وجود أصحاب معتقدات وأفكار تهاجم الفن بصورة سيئة لدرجة باتت معها «الأمة فى خطر»، ويفسر «نوح» شعوره بقوله: «حين أرى مواطنين يكفرون بعضهم البعض.. لا بد أن نشعر بالقلق على الأمة التى أصبحت فى خطر». حياة الفنانين عامة تسير بشكل عشوائى إلا «نوح» فصار كل شىء بميعاد وكل شىء بحساب؛ فالطعام له وضع خاص لظروف مرضه ومواعيد محددة يصاحبها دائما تناوله للعقاقير والدواء، فرغم أنه كان يوصف بين أفراد عائلته ب«الأكيل» فإنه لم يعد قادرا على تناول اللحوم كما كان من قبل، وصار كل ما ينبغى تناوله هو المسلوق فقط حفاظا على ما تبقى لديه من صحة. المرض غيّر من طقوس حياته، صار يجلس فترات طويلة من يومه صامتا لا يحاول التحدث إلى أحد، يتأمل حاله الذى وصل إليه، يداه تتحركان بصعوبة بالغة، وقدماه تخذلانه كلما أراد الوقوف فيضطر للجوء إلى أحد من أفراد عائلته لمساعدته فى تغيير مكانه، يجلس مستكينا على كرسى خشبى فى غرفة الذكريات يزينها ميكروفون قديم آخر ما تبقى من استديو ومسرح النهار الذى أسسه فى السبعينات ليصدر قرار بغلقه من النظام الحاكم فى الثمانينات الأمر الذى دفعه للاعتزال والبقاء بعيدا عن الأوضاع السياسية والفنية، ينظر إلى الميكروفون فى تأمل لماضٍ تركه برغبته وحاضر لم يعد يساعده على بذل شىء، يلتقط أنفاسه بحثا عن أجمل ما فى ذكرياته ويطلب من «كوثر» إحدى قريباته أن تسمعه لحنا ألفه خصيصا لرواية «الثلاثية» لنجيب محفوظ وأهداه إياه قبل وفاته، يبدأ العزف كبداية الحياة هدوءا وسكونا ويزداد توهجا ويتقلب ما بين فرحة ونحيب، تتغير ملامح «نوح» لحظة سماعه للحن، تتحرك يداه لترسم ملامح اللحن كأنه على خشبة المسرح، ينفعل بانفعالاته ويبتسم لفرحته ويستكين لهدوئه، يرسم اللحن حالة خاصة طارئة على وجه «نوح»، يستعيد معه كل ما فقده بفعل المرض، إنه العون أو كما يدندن مع نفسه: «مدد مدد مدد.. وشدى حيلك يا بلد إن كان فى أرضك مات شهيد.. فيه ألف غيره بيتولَد بُكره الوليد جاى من بعيد.. راكب خيول فجره الجديد يا بلدنا قومى واحضنيه.. ده معاه بشاير ألف عيد قومى انطقى وسيبك بقى.. من نومة جوه فى شرنقة ده النصر محتاج للجَلَد ومدد مدد».