وزارة التضامن: صرف دعم نقدى للأشخاص ذوى الإعاقة ب10 مليارات جنيه سنويا    «النواب» يوافق على زيادة حصة مصر في صندوق النقد الدولي    "بسيوني" يتقدم بأوراق ترشحه لانتخابات التجديد النصفي لنقابة الصحفيين بالإسكندرية    محافظ الشرقية يشهد احتفالية جامعة الزقازيق بالعام الجامعي الجديد    صرف مساعدات فورية ومعاش تكافل وكرامة للأسر الأولى بالرعاية في الشرقية    «المؤتمر»: تعديلات قانون صندوق مصر السيادي خطوة لدعم الاقتصاد الوطني    البنك الأهلي المصري يحصد جائزة أفضل مجموعة قانونية لعام 2024 على مستوى الفرق القانونية الكبرى العاملة بقارة إفريقيا    خلال أيام .. طرح شرائح الاتصالات المدمجة eSIM    البنك الأوروبي لإعادة الإعمار يعلن أسماء الفائزين بمسابقة المشاريع الزراعية    الحوثي يتحدى.. استهداف السفن والطائرات الأمريكية والإسرائيلية في قلب الصراع    بلينكن: حان الوقت للتوصل إلى وقف لإطلاق النار    فيديو.. غارة إسرائيلية تستهدف محيط مطار بيروت    القوات الأوكرانية: وقوع إصابات بجانب المطار العسكري في ستاروكونستانتينوف    بعثة يد الأهلي تصل المغرب للمشاركة في بطولة أفريقيا    الأهلي في مجموعة متوازنة.. وبيراميدز يصطدم بالترجي التونسي بدوري أبطال إفريقيا    رغم تصريحات ثروت سويلم.. رابطة الأندية تنفي عدم إجراء قرعة ل الدوري    ضبط الفنان طارق ريحانة لصدور حكم قضائي ضده    الأمن يكشف لغز مقتل الطفلة لميس في الدقهلية    فيكتور أمبروس وجري رافكن| عقول خلف إنجازات الجينوم تفوز بنوبل الطب 2024    بالصور.. محافظ بني سويف يفتتح وحدة العناية المركزة للأطفال بمستشفى الصدر    سلمى أبو ضيف وهنا الزاهد وإنجي كيوان في مدرجات أبو ظبي (صور)    هددها بنشر صور فاضحة.. السجن 5 سنوات لسائق حاول استدراج سيدة لعلاقة آثمة بالشرقية    بعد صفقة ال300 مليون جنيه.. هل أفلس صبحي كابر؟    مؤاسل «القاهرة الإخبارية»: إسرائيل تستعد لتنفيذ عملية برية جديدة في لبنان    منها توطين 23 صناعة جديدة.. أهم إنجازات "ابدأ"    نتنياهو: سننهي الحرب بعد تحقيق جميع أهدافنا والتأكد من عدم تكرار أحداث 7 أكتوبر    افتتاح معرض «إرادة شعب» في متحف الحضارة لتخليد ذكرى انتصارات أكتوبر    وزارة الثقافة تطلق أسبوعا مكثفا للشباب بسوهاج ضمن مبادرة «بداية»    أسعار تذاكر مباراة منتخب مصر وموريتانيا.. كيفية الحجز وأماكن الاستلام    «الرعاية الصحية» تعلن نجاح جراحتين لزراعة القوقعة في مجمع الإسماعيلية الطبي    محافظ أسيوط يتفقد وحدة الفيروسات الكبدية والمركز الصحي الحضري بمديرية الصحة    وزير الصحة: تطوير مستشفى «هرمل» بالشراكة مع معهد الأورام «جوستاف روسى»    جامعة عين شمس تنظم احتفالية كبيرة بمناسبة الذكرى 51 لانتصارات أكتوبر    اليوم.. كلية الدراسات الإفريقية العليا تنظم ندوة بعنوان «نصر أكتوبر وتأصيل الانتماء لدى الشباب»    السبب غامض.. سقوط طالبة من الطابق الثالث لمدرسة ثانوية في قنا    رابط الاستعلام عن نتيجة مسابقة شغل وظائف معلم مساعد 2024    تقنية «mRNA» تقود العالمين فيكتور وروفكون للفوز بجائزة نوبل للطب بعام 2024    مرشح "الأوقاف" في مسابقة ماليزيا للقرآن الكريم يُبهر المشاركين والمحكمين    انتشال جثة طفل غرق في ترعة النوبارية بالبحيرة    سيد معوض: الكرة المصرية تعاني من أزمة في الظهير الأيسر    بوكا جونيورز ينهي مسلسل هزائمه في الدوري الأرجنتيني    8 مطربين لبنانيين يجمدون حفلاتهم بسبب أحداث بيروت (تقرير)    افتتاح ورشة عمل عن إنتاج أصناف الأرز الأكثر إنتاجية في مواجهة التغيرات المناخية    نص التحريات في قتل ابن السفير ب الشيخ زايد: «المتهمان بادرا بصعقه ثم تحققا من موته وتمكنا من سرقة منقولاته»    عام على غزة.. 10 آلاف مريض سرطان يواجهون الموت وبحاجة للعلاج بعد تدمير المستشفى الوحيد    المنطقة الشمالية العسكرية تطلق المرحلة الثالثة من حملة «بلدك معاك» لدعم الأسر الأولى بالرعاية    وزير الشباب والرياضة يبحث الفرص الاستثمارية وتسريع وتيرة تطوير الإنشاءات    وزير الصحة: نطور أدائنا حتى لا ينتقص حق المواطن المصري من خدمات صحية    الأنبا مرقس يترأس الاحتفالات الروحية بكنيسة السيدة العذراء ببني محمديات    البرلمان يحيل 19 اتفاقية دولية إلى اللجان النوعية المختصة    باكستان: مقتل 3 أجانب وإصابة آخرين بانفجار قرب مطار كراتشي    «دردشة خانه فيها التعبير والدنيا اتقلبت».. شوبير عن أزمة القندوسي في الأهلي    أشرف سنجر: مصر تدافع عن شعب أعزل سواء الفلسطيني أو اللبناني    الحالة المرورية اليوم بشوارع وميادين القاهرة الكبري الإثنين 7 أكتوبر    كيف رد الشيخ الشعراوي على شكوك الملحدين في وجود الله؟.. إجابات تزيل الحيرة    هل كل ما يفكر فيه المسلم يحاسب عليه؟.. «الإفتاء» تجيب (فيديو)    الدكتور حسام موافي ينتقد الإسراف في حفلات الزفاف: "ستُسألون عن النعيم"    «الإفتاء» توضح طريقة الصلاة الصحيحة لمن يسهو في الركعات بسبب المرض    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الممر المسحور
نشر في المصري اليوم يوم 26 - 11 - 2010

فى البدء لم يفطن إلى حجم المعجزة، وتفسيرها، وكيفية حدوثها، على العكس تماما راح يمسك بالكوب الزجاجى السميك، ويشرب النعناع الدافئ فى سعادة، دون أن ينتبه إلى غرابة ما حدث إلا بعد مرور وقت طويل. بمجرد أن انتبه اهتز الكوب فى يده، وانتصب شعره، واقشعر جلده، وسال فؤاده فى صدره محاولا تفسير الأمر، وكيف حدث ما حدث!
والحكاية أنه لم يكن فى أى وقت واثقا من صحة قراره بالسفر خارج مصر. لذلك قام اللا وعى بالمطلوب منه باستمرار. حينما يعلو اللحن الحزين فى روحك، وتكون فى الوقت نفسه راغبا عن الإصغاء إليه، فإنك - دون وعى منك - تحاول بضجيج الأفكار أن تشوش عليه، حتى لا تتمكن من سماعه. هذا ما حدث بالضبط فى الأسابيع القليلة التى سبقت السفر. السخط من كل شىء وأى شىء. الفقر والقهر ومظالم الاستبداد، واليأس والبؤس وأصناف الفساد. فى كل يوم تطالعنا الصحف بقهر الإرادة، واستغلال السلطة، والفُجر بالنفوذ. ارتفاع الأسعار، سرقة الأصول، انتشار المرض، المياه الملوثة، انقطاع الكهرباء، فضائح الكبراء، توريث البلد. كلها أعراض لمرض مستعصٍ: سِفَاح السلطة بالثروة التى أنجبت «أولاد الحرام»، ثروتهم آلاف الملايين، ورغم ذلك يصدرون قوانين تعصف بالفقراء من أجل أن يتحسن ترتيبهم فى قائمة «المليارديرات».
سأسافر. سأرحل عن هذا البلد. سأركّب لنفسى جناحين وأحلق إلى بعيد. سأصعد إلى السماء السابعة، سأنسى أننى مصرى وأتذكر أننى إنسان. سأنفذ من الثقب الضيق وأنطلق إلى الأفق الإنسانى الأرحب. (والبلد دى مفيش فايدة فيها وماتستاهلش الواحد يضحى عشانها ولا حتى بكيس شيبسى!!).
كانت غضبته كاسحة ولذلك لم يجرؤ أصدقاؤه على أن يجادلوه. لماذا ستسافر، وما هدفك من السفر؟ لست غنيا فى بلادك ولكنك أيضا لست فقيرا. لست حرا فى بلادك ولكنك أيضا لست مسجونا.. لست عزيزا فى بلادك ولكنك أيضا لست مقهورا.. بين بين.. والبين بين الذى لا يعجبك الآن إذا قارنته بالبؤس البشرى لوجدته جنات عدن! ماذا كنت ستقول إذن لو كنت تسكن فى العشوائيات، أو أصابك سرطان الكبد، أو وجدت نفسك مسجونا على البرش؟! هذه أفكار ربما دارت بخاطر أصدقائه، لكنه لم يكن مستعدا لسماعها.
يستمر فى عناد فى إجراءات السفر. يختم عشرات الأوراق، ويمر على عشرات المكاتب، ويستمر فى إجراءات السفر. يخمد اللحن الشجىّ المنبعث من أعماقه، ويستمر فى إجراءات السفر. يوئد الخفقة الخافتة فى قلبه ويستمر فى إجراءات السفر. يخاصمه النوم ويستمر فى إجراءات السفر. يتفادى أن يرنو إلى أرجاء البيت ويستمر فى إجراءات السفر، تهجم عليه ذكريات الماضى ويستمر فى إجراءات السفر.
يختم الضابط الجواز بطريقة روتينية دون أن ينظر إليه. يعبر الحد الفاصل بين مصر والعالم الخارجى، يصعد الطائرة شاحبا وينظر للسماء فى غرابة، يهبط إلى البلد الغريب مأخوذا وقد سقط قلبه فى قدميه. يحمل حقيبته وينصرف. فى الفندق يقلب الأمر على جوانبه ثم يطفئ النور لينام. يشعر بحنين طاغٍ إلى ارتشاف مشروب ساخن. يتذكر فى أسى - وهو يضع رأسه على الوسادة - أنه لم يحضر معه كوبه المفضل، ذا القاعدة الزجاجية السميكة، الذى كان أيضا كوب أمه المفضل، رحمها الله.
تأخذه الحياة فى دواماتها، تقطع الطيور سماء الكوكب الأرضى بأكمله حنينا إلى موطن الأجداد، وتنتظم الأسماك فى رحلة طويلة مهلكة فى المياه السوداء الباردة صوب الجنوب الدافئ لتمارس الحب وتضع البيض وتحيى ذكريات الآباء.
يحن الغريب إلى أصله، والطير إلى وكره، ولا يسكن الوليد إلا حينما يسمع دقات قلب أمه التى كان يسمعها وهو فى رحمها. فى الأيام التالية تساءل: ماذا صنع بنفسه، ولماذا كان السفر؟.. فى الأسابيع التالية سكن الضجيج تماما، فصار يسمع صراخ روحه بكل وضوح. يستيقظ فى الصباح فيُخيل إليه أنه يرى معالم غرفته. وبدأ يفتقد كوبه المفضل، كتبه التى تركها فى المكتبة، كراريس أشعاره القديمة، قميصا نساه هناك ويود أن يلبسه. الطريق المفضى إلى البيت. نداء الكروان فى الأمسيات المقمرة. نوعية طرشى متبلة لم يكن يأكل الطعام إلا بها، وجه بائعة الخضار على مفرق الشارع. صبى المكوجى الذى يخطئ فى الحساب حين يكون الخطأ فى صالحه. وجوه أصدقائه القدامى. ضحكة تخرج من القلب رغم البؤس السائد، نكات فى غاية الذكاء، لا يعرف من أبدعها.
كان واثقا أنه لو عاد إلى بلاده سيلعنها، رغم ذلك لم يستطع أن يمنع إحساسه بالحنين الطاغى.
والذى حدث ولا يعرف له تفسيرا، ولا يجرؤ أن يحكيه لأحد، لكن المؤكد أنه كان مستيقظا تمام اليقظة، لم يكن هناك أى احتمال أن يكون نائما ويحلم. كان راقدا على فراشه، مستيقظا على سريره، عاجزا عن النوم، شاردا فى ذكرياته الماضية، حين تذكر فجأة كوبه الزجاجى المفضل، الذى كان فى الأصل كوب أمه، شعر بالحنين إليه، فغادر فراشه مغمض العينين ليحضره إلى جواره، اجتاز الغرفة إلى الممر، اخترق الممر إلى المطبخ، ومشى فى المطبخ إلى الكوب، ثم صب النعناع الدافئ. وعاد إلى فراشه ليشربه فى استمتاع.
وفجأة انتصب من فراشه مذعورا. وألقى نظرة على الكوب فارتجفت يداه. إنه هو، كوبه القديم، ذو القاعدة الزجاجية السميكة، يحمل رائحة أمه وأيامها الخالية. راح يرمقه دون وعى، عاجزا عن التفسير. الكوب فى المطبخ بمصر، يفصله عنها بحر وصحراء وجبال ودموع. فكيف ذهب إلى هناك بهذه البساطة، ثم عاد فى لمحة عين، ومعه الكوب الغالى العزيز؟!
لم يجد تفسيرا واضحا، فى الحقيقة لم يكن هناك أى تفسير. لكن ما كان يهمه، منذ تلك اللحظة وإلى الأبد، أنه اكتشف الممر المسحور، الذى يقوده إلى عالمه القديم، يجتاز المستحيل بقوة الحنين.
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.