إذا تجردت العبادات من مضمونها الأخلاقي، وفُرِّغتْ من أساسها الغيبي الرباني، لم تحقق ثمرتها، ولكل عبادة حرمٌ يحيط بها، وإجراءاتٌ سابقةٌ عليها، وأعمالٌ وآدابٌ وتمهيداتٌ نفسية وسلوكية تسبقها، تضمن وصول الإنسان إلى الذروة العليا من معانيها وثمراتها ومقاصدها، وبدون ذلك كله فإن العبادات والفرائض تكون كالسمكة إذا أخرجت من الماء، أو كالشجرة التي نزعت أغصانها وأوراقها وفروعها وثمارها، فصارت جرداء. فلابد للعبادات والفرائض من أن نقوم بها، بعد أن نوفر ونهيئ لها ذلك الجو المحيط، أو السياق الواسع، الذي يجعلها تحقق ثمارها، وتصنع الإنسان النبيل، الموصول بالله، المتحلي بالقيم. فما هي تلك الإجراءات والتمهيدات والآداب، التي ينبغي أن تحيط بالعبادات لتحقق ثمرتها؟؟ أولا: لابد من تدريبٍ مستمر، والتفاتٍ وانتباهٍ، إلى استحضار توقير الله تعالى وتعظيمه، وتعظيم شعائره، وإدارك عظمة الربوبية، وإدراك أن الأكوان جميعا تحت دائرة سلطانه، خاضعة لعظمته، تقوم بتسبيحه وتمجيده وتقديسه، ووهذا الأصل باهت في قلوب كثير من الناس، ليس له توهج وجذوة وحرارة، يؤمنون به لكن لا يستحضرونه، ويعرفونه لكن لا يتذكرونه، فالأساس الأول في القيام بالعبادة بصورة تحقق ثمراتها هو امتلاء القلب تعظيما لرب العالمين سبحانه، وإدراك أن هذه العبادة التي نقوم بها هي مخاطبة وإقبال على صاحب الهيبة والجلال، والرحمة واللطف والجمال، وهذه المعاني هي التي تحول العبادات، من الطريقة الجافة التي نؤديها بها، فلا نجد لها ثمرة، ولا يستقيم بها سلوك، ولا ترتوي بها الأرواح، حتى تصير نبعا روحانيا فياضا، يشع ويتوهج بالقيم، والرقي، والكمالات النفسية، التي تعين على فهم مراد الله، وصناعة العلم العميق الذي يصنع الحضارة، ويوصل إلى الله، فتتحقق به سعادة الدنيا والآخرة. وقد أحببت أن أساعد القراء الكرام، على لمحة من الإقبال الصافي على الله تعالى، ونحن في أيام رمضان، فأنشأت لكم هذه المناجاة: (اللهم يا واسعَ الجود، يا باريء الوجود، يا عظيم الطَوْلِ، يا جليل الفضل، يا قديم الإحسان، يا عظيم الشان، يا من وسعت الخلق رحمةً وعلما، وحِكْمَةً وحلما، أَفِضْ علينا من لطائف جودك، ما تخرجنا به من ظلمات الظلم والجهل، إلى أنوار العلم والفضل، فإن بين هذه الضلوعِ قلبًا، قد خضع لعظمتك وجلالك، ولاحت له لمحةٌ وبارقةٌ من مجدِك القديم، وسلطانِك العظيم، ومُلْكِكَ الفخيم، وجُودِكَ العميم، وتدبيرِكَ الحكيم، وقد خضعت الملائكة العِظَامُ لسَطْوَتِك، واندكَّت الجبالُ الشُّمّ الرواسي لعظمتك، وتضعضعت قلوب العارفين لخشيتك، وهيبتك ومحبتك، وتنزلت الملائكة بعجائب تدبيرك، وعرجت بلطائف تقديرك، وضجَّت الأكوان بتسبيحك وتمجيدك، وسبَّحت بحمدك وتقديسك، فيا جليلا قد لَطَف، ويا جبارًا قد عَطَف، ويا مجيدًا قد رَأَف، لعل سابقةً من سوابق جودك وحلمك، واصطفائك وإنعامك أن تدرك عبدك هذا، الفقير الملهوف، الخاضعَ لعظمتك، الموقنَ في كرمك، الراغبَ فيما عندك، الواثقَ في جميل إقبالك، المعتزَّ بك وحدك، الطامعَ في رحمتك، المستأنسَ في هذا الدار برشحات لطفك، حتى تزج بنا في أنوار العطاء والتجلي، والنصرة والتولي، ولا حول ولا قوة إلا بك)، وللحديث بقية.