الجِذْر الذى تنبت منه العبادات، ويُمَثِّلُ المحضنَ الذى تنمو فيه، ويمدها بالحياة والنضرة والتوهج، هو العلاقة الموصولة برب العالمين سبحانه، والظن الحسن به جل شانه، وكلما قَوِيَ اليقينُ، وفاض به القلب، جاءت العبادات والفرائض حيَّةً، مُشِعَّةً، وهَّاجة، لها ذَوْقٌ وأُنْسٌ. فرجع بنا الأمر إلى وجوب إعادة بناء الأصول والأسس، الوجدانية القلبية، التى تترعرع فيها الأعمال والعبادات على ما ينبغى. فكيف أتمكن من إنعاش هذه المعانى فى القلب، وكيف الوصول إلى حالة تجيش فيها القلوب وتفيض ربانية، وتعلقاً بالغيب، ومراعاة له فى العبادات وحركة الحياة؟؟ الطريق إلى ذلك هو دقائق معدودة فى جوف الليل، فى وقت السحر، قبيل الفجر، حيث السكون والسكينة، وفراغ القلب والذهن من الشواغل والارتباطات، وشئون الخلق، وأمور المعيشة، حيث الهدوء التام الشامل، بلا ضجيج ولا صخب، حيث يتمكن العبد من الخلوة إلى ربه، فيناجيه، حيث يتجلى الله جل شأنه بالعطاء والغفران على عباده فى تلك الساعة المباركة، حيث القلوب فى أصفى أوقات إقبالها على بارئها سبحانه، حيث الألباب والبصائر والبواطن فى أرفع أوقات الشعور بالعبودية المحضة، والالتجاء التام إلى ذى العزة والجبروت، وصاحب الكبرياء والعظمة، الذى وسع كل شىء علماً، ورحمة وحلماً، حيث يتوجه العبد بكامل الالتجاء إلى الله تعالى، بالحمد والثناء والتمجيد والتقديس، والضراعة والاحتماء، هنالك تفيض الشئون، وتخشع القلوب، ويفيض اليقين، ويحصل الإقبال، وتزول الحُجُبُ والأكدار، وترِقُّ الأستار الحاجبة للبصائر عن مشاهدة عظمة مقام الربوبية، وتعرج القلوب فى أشرف معارج الشفافية والصفاء، وتذوق معنى الاستمداد من الله تعالى والطلب منه، ويشعر العبد أنه على حافة هذه الحياة الدنيا، وأنه يطل على الغيب، ويكاد يعاين الشئون العلوية الحاصلة فى الملأ الأعلى، فإذا تهيأ لك ذلك فقل: (يارب، أسألك طمعاً فيما عندك، وتقرباً إليك، أن تجعلنى فى معيتك وأنسك، وإلا فبحق عزتك وجلالك لا أبرح بابك هذا، فإنه ليس لى على الحقيقة سواك، والكل سواك زائل وفانٍ، وأنت الحق الباقى، الأبدى السرمدى، مفاتيح خزائن السموات والأرض بيدك، ومقاليدها طوع أمرك، ماذا وجد من فقدك، وماذا فقد من وجدك، أيدركنى ضيم وأنت ذخيرتى، وأُظْلَمُ فى الدنيا وأنت نصيرى)، نعم، توجه إلى الله تعالى بذلك وبمثل ذلك، وقل كل ما فى باطنك، وتوجه إلى الله تعالى بالشكوى من كل ما يثقل عليك، ويضيق به صدرك، واترك دموع عينيك تنهمر، وكن على يقين من أن ربك سبحانه عليم بباطنك، قال سبحانه: (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا) (الإسراء - آية 25)، فإن أضفت إلى تلك الخلوة استماع آيات من القرآن الكريم بصوت محمد رفعت، أو استماع ابتهال ومناجاة إلهية بصوت نصر الدين طوبار فإن قلبك ينتعش بأحوال ربانية شريفة، ويتعمق فى نفسك اليقين، وتشعر أن علاقتك بربك سبحانه ليست جافة ولا جامدة، بل تجد لها أثراً فى صلواتك وصيامك، وسائر أذكارك وعباداتك، (وللحديث بقية).