انتبهت لحديث مفتى الجمهورية حينما صرح بأن إسلامية الدولة هى قضية هوية، وما تلاه من حديث شيخ الأزهر بأن الهوية الإسلامية للدولة قضية فوق الدستورية. وجلست أتأمل كلا التصريحين وأفكر فيهما وأنا أتساءل، وهل تحتاج مصر بكل تاريخها وتراثها لإثبات هويتها الإسلامية، التى لم تترك بصماتها فقط على مسلمى هذا الوطن بل على مسيحييه أيضاً، فباتت ثقافتهم ذات ملامح إسلامية؟ الحقيقة وجدتنى ورغما عنى أبحث فى تلك القضية ليزيد تيقنى بعد البحث فيها أن أزمتنا الحقيقية اليوم هى قضية البحث عن هوية، وأن الخروج من الوضع الراهن الذى وصلنا له بعد عام من حكم جماعة الإخوان وزوال حكمهم فيه، يفرض علينا تحديد تلك الهوية لا كمسلمين وحسب ولكن كمسيحيين أيضاً نعيش جميعنا فى وطن واحد. وبات علينا جميعا إجابة السؤال: هل أنا مسلم مصرى أم مصرى مسلم؟ وهل أنا مسيحى مصرى أم مصرى مسيحى؟ قناعاتى الشخصية تؤكد لى أن هوية الوطن تسبق هوية العقيدة، لا لأنها تفوقها مكانة أو قيمة، ولكن لأنها تمنح البشر من ذات الوطن التلاحم والمواطنة والسلام المجتمعى، وتحقق قيم العدل والمساواة أمام القانون مع الإيمان بوجود الاختلافات بينهم.. بل وتوضح لمن مالت عقولهم عن الحقيقة أن ما يحدث فى مصر الآن من اجتراء الإخوان وأنصارهم على الدولة لا علاقة له بالدفاع عن الإسلام لا من قريب ولا من بعيد، ولكنه صراع على التمسك بسلطة انتظروها سنوات وضاعت منهم فى سنة واحدة بأيديهم هم، بعد أن أثبتوا للمصريين عمليا -لا بتحليل القول والفعل- أنه لا وجود للوطن فى مفهومهم وأنهم يؤمنون بقول مرشدهم الأسبق عاكف «طز فى مصر» وأن «المسلم الماليزى أقرب لهم من المسيحى المصرى» وبالتالى فلا قيمة لوطن، ولا أزمة فى التنازل عن بعض من أراضيه وفق ما تقتضيه المصلحة العامة للجماعة، ولا قيمة لمواطن طالما يمكن استبداله بآخر من أى جنسية شرط اعتناقه الإسلام. هكذا كان تفكير سيد قطب الذى كان يرى أن الوطن ما هو إلا حفنة من تراب عفن، وهو قول باطل غير صحيح ولا علاقة له بالإسلام. فالهادى محمد بن عبدالله نُسب إلى قريش وكنى بها فى دلالة وإشارة لمواطنته بمفاهيم عصره لقبيلة دون غيرها من قبائل مكة، ومحمد بن عبدالله هو من بكى وهو يرحل عن مكة مهاجرا واصفا إياها بأنها أحب بلاد الله لقلبه ولولا أن أهلها أخرجوه منها ما تركها. وكل هذا يثبت أن الانتماء لوطن لا يقلل من انتماء الإنسان لعقيدة يؤمن بها على الإطلاق، فالوطن ليس حيزاً جغرافياً نسكنه بل هو أكبر من ذلك بكثير. لأن كلمة وطن أشمل وأعم من مساحة نعيش فيها، فهو تاريخ المرء، وجذوره، وأسلافه، ومخزونه الدينى والثقافى وكل ما يمت له بصلة. ويبقى الإيمان بالدين فى قلب كل منا تعبر عنه -إن صح- سلوكياته وقيمه وأفكاره ومبادئه، وتربطه بالخالق قبل كل هذا علاقة موصولة بحبل سرى غير مرئى للآخرين، سواء كان مسلما أو مسيحيا أو يهوديا. ومن هنا كان اعتراضى دوما على عبارة «شعب الكنيسة» لدى إخوتى فى الوطن من المسيحيين، لأنهم من شعب مصر لا يختلفون فى حقوق أو واجبات أو هموم عن بقية الشعب من المسلمين. ولذا أيضاً رفضت المادة 219 فى دستور الإخوان ومن شايعهم عن باطل، لأنها ترسخ لقيم لا علاقة لها بوطن أو مواطنين وتجبرنا على الدخول فى تفاصيل الاختلافات بين الأئمة والشارحين للدين بشكل يؤثر على المواطنة ومفهومها. يحفظ الأقباط فى مصر مسلمين ومسيحيين هويتهم الدينية، ليسوا بحاجة لدستور يحميها لهم، ولكننا بحاجة للتأكيد على هويتنا المصرية حماية لوطن.