بعض الناس يستهل الحديث عن الديمقراطية باعتبارها حكم الأغلبية وفقط، يرفع فى وجهك هذا المفهوم وكأنه صالح للتطبيق فى جميع القضايا، من أول اختيار موقع لإنشاء محطة صرف صحى، وحتى وضع المواد الدستورية وبناء هويات الأوطان. والحقيقة التى يجب أن تضعها نصب عينيك أن الديمقراطية الراشدة ذات جناحين أساسيين أحدهما حكم الأغلبية، والثانى هو حماية حقوق الأقلية، فليس من حقك مثلا وأنت صاحب أغلبية 80 % فى البرلمان أن تقر قانونا يسقط الجنسية عن جزء من المواطنين المختلفين معك سياسيا أو دينيا، أو أن تستخدم أغلبيتك فى سن قانون يقصر الوظائف العامة على المسلمين دون المسيحيين، أو تتصور أن آخر مطالب بأن يحترم إرادة الأغلبية ونتائج صندوق الاقتراع، حتى لو استخدمت هذه الأغلبية فى حرمانه من حق إنسانى ثابت فى كل الشرائع السماوية قبل المواثيق الدولية والدستور، ويدور حول المساواة وتكافؤ الفرص وحرية الرأى والتفكير والعقيدة. جزء من قيمة الديمقراطية أيضا أنها توفر آلية للحوار، لكنه حوار مرهون بالاعتراف بالآخر والقبول بالتنوع، والالتزام بالقيم الأساسية للمجتمع، وتلك القيم الأساسية للمجتمعات ومنها هويتها الأصل فيها أن يجرى بناؤها بالتوافق وليس بالأغلبية، وأن تعبر عن كل الشعب وليس عن أغلبيته أو التيار الرابح فى صندوق الاقتراع، ومن حق كل فرد فى هذا المجتمع أن يجد نفسه ومعتقده الدينى والسياسى، وعرقه إن كان فى مجتمع متعدد الأعراق، فى هوية وطنه ودستوره. وكما أنه ليس من حق الأغلبية الانفراد برسم هوية الوطن، ليس من حق الأقلية أيضا تعويق إرادة شعبية غالبة، لكن من حق الطرفين أن يجدا صورتيهما فى الصورة النهائية لهذه الهوية لتخرج معبرة عن التنوع حتى ولو فى إطار نسبة كل طرف ومساحته داخل المجتمع. لذلك أقولها لك مرة أخرى، تبنى هوية الأوطان بالتوافق وليس بالأغلبية، لذلك فقد فزعت فزعا شديدا عندما شاهدت بعض الإخوة السلفيين يقارنون بين الوضع فى مصر ونظيره فى أوروبا، ويخبرونك بأن الملكة فى بريطانيا هى رئيسة الكنيسة، وأن المواطنين المسلمين فى أوروبا وأمريكا ما زالوا يفتقدون حقوقا أساسية وفرصا سياسية، وأنهم ليسوا جزءا من هوية أوروبا ولا دساتيرها، وقطعا أنت تدرك الفارق الرهيب بين مسلمين فى أوروبا وأمريكا، حديثى الإسلام، أو مهاجرين من بلاد إسلامية، وبين مسيحيين مصريين مواطنين، ليسوا حديثى التنصر، ولا مهاجرين. المسلمون فى أوروبا وأمريكا كانوا شيئا لاحقا للدولة والمجتمع وهويته، لكن المسيحيين فى مصر كانوا شيئا سابقا للدولة والهوية، وليس من حقك أن تعامل شريكك فى الأرض والوطن والتاريخ والنشأة، مثلما يعامل الغرب مهاجرين أو أقلية مستحدثة. الديمقراطية يا عزيزى ليست غاية فى حد ذاتها، لكنها وسيلة لبلوغ الحكم الرشيد، والحكم الرشيد هو الحكم الذى يعبر عن الشعب كل الشعب، ولا يقصى أحدا لمجرد أنه لا يملك الأغلبية..!