ما زالت السيدة «آن باترسون» سفيرة الولاياتالمتحدة بالقاهرة مُصرّة على أن تلعب دورها الكريه، وأن تبذل جهودها المقيتة للتدخل فى الشأن الداخلى المصرى، ودعم ذلك الفصيل المتخلف الفاشى الذى قفز إلى السلطة لحظة انتشاء المصريين بنجاحهم فى إسقاط النظام المباركى فى يناير 2011.. وتَسَلَّط بغطرسة وعناد على رقاب العباد.. ودفع مصر وشعبها ومقدّراتها ومكانتها إلى هاوية دفعت عشرات الملايين من أبناء الشعب بمختلف طبقاته وأطيافه لأن تنتفض ثائرة فى 30 يونيو مطالبة بإسقاط دولة الخفافيش، مما أزعج الإدارة الأمريكية التى راهنت على هذا الفصيل المتأسلم لحماية مصالحها فى المنطقة، وبدت تحركاتها الدبلوماسية خشنة وصفيقة يحركها صلف القدرة وغرور القوة، على عكس ما يذكرنا به ذلك الكتاب النفيس الذى صدر منذ أكثر من نصف قرن ليكشف الدور المشبوه الذى تلعبه السينما الأمريكية، كسفيرة ناعمة، تتسلل أفكارها إلى عقل ووعى الشعوب، ويحذر من مغبة الانصياع لها واختلاس تلك الأفكار المسمومة كما يصفها مؤلف الكتاب الفنان التشكيلى والكاتب والناقد والمخرج السينمائى كامل التلمسانى (1915- 1972) فى كتابه «سفير أمريكا بالألوان الطبيعية» الذى صدرت طبعته الأولى عام 1957 وأعادت مكتبة الأسرة نشره فى الفترة الأخيرة. كان «التلمسانى» صاحب بصيرة نافذة، ورؤية واعية، وقدرة على استشراف المستقبل تجعل الكتاب معاصراً بأفكاره وأطروحاته حول الدور الذى تلعبه السينما فى إعادة تشكيل الوعى واستغلال صنّاع السينما الأمريكية لها فهم يهدفون «بأفلام هوليوود إلى توجيه شعوب العالم إلى حيث تريد البنوك وتريد حكومة واشنطن الممثلة لهذه البنوك». كامل التلمسانى واحد من كبار المثقفين والفنانين المصريين فى أربعينات وخمسينات القرن الماضى، عشق الفن التشكيلى وشارك فى تأسيس «جماعة الفن والحرية» ومارس الكتابة الصحفية بمجلة «التطور» ثم اتجه إلى السينما عام 1943 والتحق ب«استوديو مصر» ومن خلاله قدم فيلمه الأول «السوق السوداء» إحدى كلاسيكيات السينما المصرية والفيلم المؤسس لتيار الواقعية فى هذه السينما، كما مارس النقد السينمائى وأصدر كتابيه «سفير أمريكا» و«عزيزى شارلى»، وفى كل نشاطاته كان المثقف الفنان صاحب الرؤية اليسارية التى حاول بشتى الوسائل الفنية أن يصل بها إلى الجماهير. يكشف «التلمسانى» عن منهجه الذى يربط بين القضية السياسية والاجتماعية والاقتصادية، والفن، من خلال تحليله لأفلام الجريمة «التى تزيف الحقائق وتحاول تبرير الجرائم بنسبتها إلى شذوذ خاص بالمجرم الذى يرتكبها، شذوذ فى طبيعة تكوين البيئة والمجتمع الذى يعيش فيه المجرم»، ويوضح أن «الجريمة هى ثورة الفرد على المجتمع الذى أخطأ فى خلقه» فالنفس المجرمة عند التلمسانى «لا توجد إلا حيث يُظلُّها المجتمع المجرم، والمجتمع المجرم هو من خَلْقِ النظام الاقتصادى الذى يُسيِّرُه»! يتناول المؤلف عمليات التغييب والاستلاب التى تتم للمتفرج بتزييف الواقع الذى يعيشه وطرح الأحلام الوردية كبديل من خلال سينما الجنس والمخدرات والكوميديات الهزيلة والفرار من الواقع وحل التناقضات الطبقية حلولاً فردية سهلة، وهو ما تقدمه السينما المصرية -ربيبة السينما الأمريكية- فى معظمها حتى الآن، عدا الهامش المحدود الذى انتزعه شباب السينما المستقلة وتيار الواقعية الجديدة. من أمتع فصول الكتاب فصلاه الأخيران، الخامس والسادس، حيث يناقش فى الخامس موضوعى الحرب والحرية، وهما موضوعان مهمان فى الحياة الأمريكية، فكل حرب كانت عند الأمريكيين -وما زالت- هى دفاعاً عن الوطن سواء كانت ضد الهنود الحمر أم ضد الكوريين والفيتناميين، أم ضد أفغانستان والعراق وليبيا حالياً، فالحرب فى نظر هوليوود -والفن يتبع السياسة ويروج لها- مجرد نزهة خلوية يذهب إليها الجندى الأمريكى ليتسلى قليلاً بقتل بعض المتخلفين.. ثم يعود منتصراً، فأمريكا -فى السينما- هى دائماً القوة التى لا تقاوم!! وعن الحرية يذكرنا «التلمسانى» بما فعلته لجنة النشاط المعادى الشهيرة بلجنة مكارثى تجاه مجموعة من الفنانين الأحرار الشرفاء الذين كانوا يعارضون السياسة الأمريكية التى تقوم على العنصرية وفرض القيود على الفكر وتحكم الرأسمالية الاحتكارية فى مصائر الشعوب والتى لا تتورع عن التدخل فى شئونها الداخلية وهو ما تفعله الإدارة الأمريكية حتى الآن فى مختلف أنحاء العالم، وخاصة منطقة الشرق الأوسط، التى حولتها إلى ساحة للحرب الأهلية من أجل إضعافها وتبديد مقدراتها وجعلها أسيرة للدعم الأمريكى -الوهمى- الذى يُنفق معظمه على عملائهم ومندوبيهم. فى آخر فصول الكتاب القديم -الجديد- يعالج مأساة الفيلم المصرى الذى يرى أنه يعتمد بشكل أساسى على الفيلم الأمريكى سواء بالاقتباس أو الاختلاس، أو كما سماها «الاختباس»، ويحذر من أن هذا «الاختباس» يتعدى من الشكل إلى مضمون الفيلم نفسه، فالأفلام المصرية بعد «هلودتها» تتحول إلى مسخ يروج لأفكار هوليوود بكلمات عربية، ويؤكد أن الفكر هو الجوهر، فلسنا فى حاجة ماسة إلى التكنولوجيا الحديثة بقدر ما نحتاج إلى الفكر الناضج. «سفير أمريكا» واحد من أهم الكتب فى حقل الثقافة السينمائية ويعد -تقريباً- أول كتاب يقدم نقداً علمياً تقدمياً منهجياً سواء فى الجانب النظرى أو التطبيقى، ويشير رغم مرور السنوات إلى أن السفارة الأمريكية، أو السفارات الأمريكية، بمسئوليها هى ليست فقط المسئولة عن ترويج السياسة الأمريكية، بل إن السينما هى أخطر سفير لأمريكا.. بالألوان!