فى رمضان قبل الماضى نشرت ثلاثين حلقة من «فرسان العشق الإلهى»، أردت منها أن يرى الناس ويطالعون مساراً مختلفاً فى تاريخ المسلمين عن تلك التى تتزاحم فى حياتنا الراهنة، وتحول الإسلام «دين المرحمة» و«الرسالة الخاتمة» إلى مجرد أفكار ترتبط بالسلطة أو دعاية سياسية فجة، أو تجارة رخيصة أو طقوس عابرة، أو قشور فارغة، تنأى عن جوهره ومخبره ومقصده العميق والخالد. وفى رمضان الحالى سأكمل، إن شاء الله تعالى، ما بدأته، لتطالعوا «الجزء الثانى» من سير أولياء الله الصالحين حين تروّعنا تلك الهوة الواسعة فى حياتنا المعاصرة بين ما يُقال وما يُفعل، وما يُخبر به الناس وما هو مُضمر، أو ما بين السر والعلن، لا نجد أمامنا أحداً أولى من أبى سعيد الخراز لنستدعى أقواله وأحواله، وكلامه وتصرفاته، لنعرف من كل هذا كيف يتطابق السر والعلن، والباطن والظاهر؟ وكيف يعلو الصدق وينخفض الكذب إلى أسفل سافلين؟ إن «الخراز» يقدّم مثالاً ناصعاً على هذا، وقد يكون بيننا اليوم من هم على طريقه، أو حتى أفضل منه، لكنهم مطمورون مقموعون متوارون خلف ركام من الزيف والخداع والبهتان. وربما يكون ما كابده «الخراز» من تنطُّع الذين يتشككون فى المتصوفة، أو يرمونهم بالخروج عن طريق «أهل السنة والجماعة» قد أعطى مساره وسيرته مذاقاً، وجعله يترك خلفه علامة على أنه عاش يوماً على هذه الأرض، وواجه المختلفين معه بصبر وترفّع وشجاعة. هو أبوسعيد أحمد بن عيسى الخراز، وُلد ببغداد مع مطلع القرن الثالث الهجرى على الأرجح، لكنه لم يلبث أن تركها، وساح فى أقطار عديدة، حتى وصل إلى بخارى بخراسان، ثم عاد لينتهى به المطاف فى مدينة الفسطاط التى أنشأها عمرو بن العاص لتكون عاصمة مصر. وكانت الهجرة الأولى نابعة من رغبة «الخراز» وحبه للأسفار من ناحية، أما الثانية فنظراً لاضطهاد أتباع «ابن حنبل» من «أهل الحديث» له، فى ركاب تضييقهم الشديد على المتصوّفة، رغم أن «الخراز» قد أسند الحديث، فحدّث عن إبراهيم بن بشار الخراسانى صاحب إبراهيم بن أدهم ومحمد بن منصور الطوسى، وروى عنه أبوالحسن على بن محمد المصرى الواعظ وأبوجعفر الصيدلانى وعلى بن حفص الرازى وأبومحمد الجريرى وأبوبكر أحمد بن الحسن الدقاق. وتربى «الخراز» على يد متصوّفة كبار، على رأسهم معروف الكرخى وذو النون المصرى وبشر الحافى وسرى السقطى، والنباجى، وأبوعبيد البسرى وغيرهم، وكان من أوائل الذين خاضوا فى مسألة الفناء والبقاء فى عصره، وألّف العديد من الكتب مثل «كتاب الصدق» و«كتاب الضياء» و«كتاب الكشف والبيان» إلى جانب بعض الرسائل التى قصد بها تعليم تلاميذه ومريديه. وقد شهد ل«الخراز» كبار المتصوفة، فها هو «الجُنيد» يقول: لو طالبنا الله بحقيقة ما عليه أبوسعيد لهلكنا. فقيل لإبراهيم بن شيبان: ما كان حاله؟ قال: أقام سنين ما فاته الحق أبداً بين الخرزتين. أما المرتعش فقال: الخلق كلهم عيال على أبى سعيد الخراز إذا تكلم هو فى شىء من الحقائق. ووصفه أبوعبدالرحمن السلمى بأنه «من أئمة القوم وجلة مشايخهم.. وهو إمام القوم فى كل فن من علومهم، له فى مبادئ أمره عجائب وكرامات مشهورة ظهرت بركته عليه وعلى من صحبه، وهو أحسن القوم كلاماً خلا الجنيد، فإنه الإمام»، وقال عنه ابن الطرسوسى: أبوسعيد الخراز قمر الصوفية. وحملت كتابات «الخراز» وأقواله محاولة جلية للتوفيق بين «الشريعة» و«الحقيقة» أو «بين الظاهر» و«الباطن»، ورأى أن: «كل باطن يخالفه ظاهر فهو باطل»، ونادى بالجمع بين قيمتين عظيمتين هما «الصدق» و«الإخلاص»، وسعى إلى ضرورة أن يصل المريد عبر المجاهدة الطويلة إلى مرحلة «عين الجمع» التى تعنى سقوط كل الشهود ما عدا الله سبحانه وتعالى. وهذه المجاهدة قادت «الخراز» إلى أن يحاور إبليس، ليس فى عالم الشهادة، ولا فى عالم الغيب، إنما فى وسط بينهما، حيث رؤى الليل وأحلامه العامرة بالنبوءات والخيال، وهنا يروى قائلاً: «رأيت إبليس فى النوم، وهو يمر عنى ناحية، فقلت له: تعال، ما لك؟ فقال: إيش أعمل بكم، وأنتم طرحتم عن نفوسكم ما أخادع به الناس! فقلت له: وما هو؟ قال: الدنيا. فلما ولى عنى، التفت إلىّ، وقال: غير أن لى فيكم لطيفة. فقلت له: وما هى؟ قال: صحبة الأحداث». وقال: «ورأيته مرة أخرى، وكان بين يدى عصا، فرفعتها حتى أضربه بها، فقال لى قائل: هذا لا يفزع من العصا! فقلت له: من أى شىء يفزع؟ قال: من نور يكون فى القلب. وهناك حكاية أخرى يقول البعض إنها وقعت بين «الخراز» وواحد من الجان يقول هو فيها: «بقيت إحدى عشرة سنة، أتردد من مكة إلى المدينة، ومن المدينة إلى مكة، لا أرى مكة وأرى رب مكة، فما صح لى منه نفس. فلما كان بعد ذلك تراءى لى بعض الجن وقال لى: يا أبا سعيد! قد -والله- رحمتك، من كثرة تردادك! وقد حضرنى شعر، فاستمع: آتيه، فلا أدرى من التيه من أنا سوى ما يقول الناس فى وفى جنس أتيه على جن البلاد وإنسها فإن لم أجد خلقاً آتيه على نفسى قال أبوسعيد؛ فقلت له: «اسمع، يا من لا يحسن القول -إن كنت تسمع: أيا من يرى الأسباب أعلى وجوده ويفرح بالتيه الدنى وبالأنس فلو كنت من أهل الوجود حقيقة لغبت عن الأكوان والعرش والكرسى وكنت بلا حال مع الله واقفاً تصان عن التذاكر للجن والإنس». لكن المجاهدة لا تقف عند «الخراز» على تجنُّب مزالق الشيطان، والابتعاد عن طريقه، وتحدى قدرته على الغواية، ومهارته فى اصطياد ضحاياه، إنما تقوم فى المقام الأول على محبة الآخرين وإيثارهم على النفس والتصالح معهم، أياً كانت الأسباب التى تؤدى إلى الشقاق. وهنا يقول: «صحبت الصوفية ما صحبت، فما وقع بينى وبينهم خلاف. قالوا: لم؟ قال: لأنى كنت معهم على نفسى». وإلى جانب المجاهدة كان «الخراز» يتوكل على الله حق توكله، منطلقاً من أن علامة المتوكل ثلاث «لا يُسأل.. ولا يُرد.. ولا يُحبس». وهناك حكاية منسوبة إليه تدل على هذا. فها هو يقول: «دخلت البادية مرة بغير زاد، فأصابتنى فاقة، فرأيت المرحلة (القرية) من بعيد، فسُررت بأنى وصلت. ثم فكرت فى نفسى: أنى سكنت واتكلت على غيره، فآليت ألا أدخل المرحلة إلا أن أحمل إليها.. فحفرت لنفسى فى الرمل حفرة، وداريت جسدى فيها إلى صدرى، فسمعوا صوتاً فى نصف الليل عالياً، يقول: يا أهل المرحلة: إن لله تعالى ولياً، حبس نفسه فى هذا الرمل، فألحقوه. فجاءنى جماعة فأخرجونى وحملونى إلى القرية». وهناك واقعة أخرى منسوبة روايتها إلى «الخراز» تصب فى الاتجاه ذاته، إذ يقول: «كنت بالبادية، فنالنى جوع شديد، فغلبتنى نفسى أن أسأل الله صبراً، فلما هممت بذلك سمعت هاتفاً يقول: ويزعم أنه منا قريب وأنّا لا نضيّع من أتانا ويسألنا الفتى جهداً وصبراً كأنّا لا نراه ولا يرانا فلما سمعت هذا، أخذنى الاستقلال من ساعتى، فقمت ومشيت». ول«الخراز» فى مقام الرضا أقوال عميقة، حين نقرأها نقف على أبواب الامتثال لأحكام الله وأقداره، والرضا بما قسّمه، ففى هذا منبع الهناء ومبلغ السعادة، شرط أن يكون الإنسان قد أخذ بالأسباب على قدر الاستطاعة، ولم يُهمل أو يفرّط. وهنا كتب «الخراز»: «قلت: متى يألف العبد أحكام مولاه، ويسكن فى تدبيره واختياره؟ قال: الناس فى هذا على مقامين، فافهم. فمن كان منهم إنما يألف أحكام مولاه، ليقوم بأمره الذى يوصله إلى ثوابه، فذلك حسن وفيه خير كبير، إلا أن صاحبه يقوم ويقع، ويصبر مرة ويجزع أخرى، ويرضى ويسخط، ويعبّر ويراجع الأمر، فذاك يؤديه إلى ثواب الله ورحمته، إلا أنه معنى فى شدة ومكابدة. وإنما يألف العبد أحكام مولاه، ويستعذب بلواه، ويسكن فى حسن تدبيره واختياره بالكلية بلا تلكؤ من نفسه: إذا كان العبد: آلفاً لمولاه ولذكره، وهو له محب وادّ، وبه راض، وعنه راض. فهل يكون، أيها السائل، على المحب مؤونة فيما حكم عليه محبوبه؟ كيف؟ وإنما يتلقى ذلك بالسرور والنعيم!! هكذا قال فى الخبر: حتى يُعد البلاء نعمة، والرخاء مصيبة». ويدعونا «الخراز» إلى ألا نسخر من أحد، أو نقدّر الناس بهيئتهم أو مظهرهم الخارجى، وهنا يقول: «دخلت المسجد الحرام، فرأيت فقيراً عليه خرقتان يسأل شيئاً، فقلت فى نفسى: مثل هذا كَلّ على الناس! فنظر إلى وقال: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ)؛ قال: فاستغفرت فى سرى، فنادانى فقال: (وَهُوَ الَّذِى يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ). إن هذه القصة تذكّرنا بتلك التى جرت بين الرسول الكريم، عليه الصلاة والسلام، والرجل الفقير الأعمى عبدالله بن أم مكتوم، حين تشاغل عنه النبى بالحديث إلى أكابر مكة، فعاتبه الله من فوق سبع سماوات فى سورة كاملة هى «عبس»، حيث يقول رب العزة: «عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلا يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى * كَلا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ * فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ * فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ» صدق الله العظيم. ويحدد «الخراز» علامة الواصلين، أو الدلائل التى تقودنا إلى معرفة أهل الصلاح، وأصحاب المقامات الروحية الرفيعة، فيقول: أما علمت أيها المريد أن الورع والزهد والصبر والتوكل والخوف والرجاء والمراقبة والحياء والمحبة والشوق والأنس والصدق فى المواطن والإخلاص فيها، وكل خلق حسن جميل: إنما هو منازل نزلها العمال لله عزّ وجلّ، ثم ارتحلوا منها إلى غيرها، حتى وصلوا إلى المنى من قُرب سيدهم. فما أنت وذكر المنزل الذى نزلته حتى أوصلك إلى بغيتك، إن كنت واصلاً ظافراً ببعض حظك من مطلوبك؟ فأنت كأنك مشاهده». ول«الخراز» أقوال عميقة تنطق بفيوضات روحانية رائقة، وتنطوى على حكم سابغة، تترك فى النفس راحة، وفى العقل يقظة، وفى الفؤاد امتنان. ومن هذه الأقوال: «إذا صدق المريد فى بدايته، أيده الله بالتوفيق وجعل له واعظاً من نفسه». «من ظن أنه يصل بغير بذل المجهود فهو متمنى، ومن ظن أنه يصل ببذل المجهود فهو متعنى». «ليس من طبع المؤمن قول: لا. وذلك أنه إذا نظر ما بينه وبين ربه من أحكام الكرم استحى أن يقول: لا». «واعجباً ممن لم يرَ محسناً غير الله، كيف لا يميل بكليته إليه؟». «علامة سكون القلب إلى الله تعالى أن يكون بما فى يد الله تعالى أوثق منه بما فى يده». «اجتنبوا دناءة الأخلاق كما تجتنبون الحرام». «مثل النفس مثل ماء واقف طاهر صاف، فإن حركته ظهر ما تحته من الحمأة. وكذا النفس، تظهر عند المحن والفاقة والمخالفة. ومن لم يعرف ما فى نفسه كيف يعرف ربه؟». «من ظن أنه يصل بغير بذل المجهود فهو متمنى، ومن ظن أنه يصل ببذل المجهود فهو متعنى». «إذا تمكن قُرب الله سبحانه وتعالى من قلب العبد، غلب على ما سواه من باطن عوارض الهمم، وظاهر حركات الجوارح». ويوصى «الخراز» تلاميذه قائلاً: «افهم أيها المريد ما ألقيت إليك وتدبّره تجده بيناً معروفاً، إن شاء الله تعالى، فأحضر الآن عقلك، واجمع همك، ولا تسمع العلم وأنت عازب الفهم عن الذى يُلقى إليك، فلا عذر لك الآن بعد العلم والبيان، بل قد تأكدت عليك الحجة، فاعمل فى التخلص إلى الله عزّ وجلّ، لعلك تتخلّص فتقر عينك بمعرفته فى هذه الدار عاجلاً قبل الآجل. نعم ثم يدوم حزنك، ويشتد كربك، وتزداد كل حال كنت تجدها أضعاف ما كنت تجدها قبل المعرفة والوصول». ويرتب «الخراز» الدرجات التى يصعدها المريد حتى يصبح من الواصلين حين يقول: «أوائل الأمر التوبة، ثم ينتقل إلى مقام الخوف، ثم إلى مقام الرجاء، ثم منه إلى مقام الصالحين، ثم إلى مقام المريدين، ثم إلى مقام المطيعين، ثم منه إلى المحبين، ثم ينتقل إلى مقام المشتاقين، ثم منه إلى مقام الأولياء، ثم منه إلى مقام المقربين، فعندها يكون العبد ذاهباً وجاءياً، وآخذاً ومعطياً، والغالب عليه هم ما قد ملك ضميره من محبة الله عزّ وجلّ وقربه». وقد عاش «الخراز» قسطاً من حياته بمدينة الفسطاط، وكان من أصحابه فى هذه المرحلة أبوسعيد أبوالحسن بن بنان، وهو من كبار مشايخ مصر. لكن حياة «الخراز» فيها لم تنج من المنغصات كما يخبرنا «السلمى» قائلاً: «أنكر أهل مصر على أبى سعيد، وكفّروه بألفاظ. فإنه قال فى كتاب السر: فإذا قيل لأحدهم: ما تقول؟ قال: الله. وإذا تكلم قال: الله، وإذا نظر قال: الله، فلو تكلمت جوارحه، قالت: الله، وأعضاؤه مملوءة من الله. فأنكروا عليه هذه الألفاظ، وأخرجوه من مصر، ثم رد بعد عزيزا». وتوفى «الخراز» سنة 286 ه/ 899 م وقال رويم بن أحمد: حضرت وفاته فوجدته يردد عند آخر نفس: «حنين قلوب العارفين إلى الذكر وتذكارهم وقت المناجاة للسر أدريت كئوس المنايا عليهم فأغفوا عن الدنيا كإغفاء ذى السكر فأجسامهم فى الأرض تحيا بحبه وأرواحهم بالحجب تحت العلا تسرى فما عرسوا إلا بقرب مليكهم ولا عرجوا عن مس بؤس ولا ضر». وتوحى بعض المصادر أنه قد دُفن بالفساط، حين تقول إنه قد قضى أواخر حياته فيها، لكن هناك مصادر أخرى تقول إن مرقده شرقى نهر دجلة على ربوة عالية بالقرب من مدينة الموصل شمال العراق. ويذكر ياسين الخطيب فى «منية الأدباء» أن قبره كان مزاراً للناس الساعين إلى التبرُّك بالأولياء. وهنا يوضح لنا محمد أمين الخطيب فى «منهل الأولياء» أن العوام يطلقون عليه اسم: «سيدى سعيد الخرازى»، وهناك من يقول إنه قرأ التاريخ المكتوب على القبر، فكان تاريخ موت «الخراز»، أما الاسم المحفور فيقول: «هذا قبر أحمد بن عيسى الخراز نسيب عمر ابن الخطاب».