مع أن الإمام أحمد رحمه الله منذ صباه فتح عقله وقلبه لعشق العلم, وحصل ما حصل منه, وتلقي عن شيوخه ما تلقي من معلومات, وطوف في الأقاليم الإسلامية ليسمع ويكتب ما سمعه من أفواه العلماء, وما سمع بعالم إلا ورحل إليه, مهما تجشم في ذلك من متاعب. مع كل ذلك فإنه لم يجلس للتدريس في المسجد الجامع ببغداد إلا وهو في سن الأربعين. ولعله رحمه الله قد فعل ذلك اقتداء بالرسول صلي الله عليه وسلم, لأن الله عز وجل قد أوحي إليه بالرسالة وهو في تلك السن. والإمام أحمد كان في كل أحواله علي رأس المتأسين بالرسول صلي الله عليه وسلم في كل شيء. وبعضهم يعلل امتناعه عن الجلوس للتدريس لأنه كان يستحي أن يفعل ذلك, وهناك من شيوخه من لايزال علي قيد الحياة. وكان رحمه الله يعقد درسه في المسجد الجامع ببغداد بعد صلاة الفجر, ونظرا لما كان يعرف عنه من زهد, وورع, وتقوي, وعلم فياض, وتواضع جم, فإن درسه كان يشهده الآلاف من مختلف الطبقات والتخصصات والاتجاهات. وكان منهم من يطلب العلم, ومنهم من يطلب الحكمة, ومنهم من يطلب الموعظة الحسنة, ومنهم من كان يكتب ما يسمعه من أحاديث شريفة, ومن أحكام فقهية جليلة. وإلي جانب هذا الدرس العام الذي كان يعقده الإمام أحمد في المسجد الجامع ببغداد بعد صلاة العصر, كان له درس خاص يعقده في منزله, يجيب فيه عن أسئلة تلاميذه ومريديه. ومن مميزات دروسه أنه كان يظلها الوقار والسكينة والجد, لأن ذلك هو الذي يتفق مع الاستماع إلي رواية السنة النبوية الشريفة, وإلي الأحكام الشرعية التي هي من أركان الدين وأصوله. وكان يري رحمه الله أن مجالس العلم عبادة, ولا مزاح في وقت العبادة. كذلك كان من مميزات دروسه: التثبت من صحة الإجابة عما يسأل عنه, ومن مظاهر ذلك أنه إذا كان السؤال عن حديث نبوي, لا يقول الجواب عنه إلا من كتاب يحضره معه, حرصا علي التأكد من صحة النقل, وابتعادا عن مظنة الخطأ في الجواب. وهذا كان اتجاهه في معظم الأحوال, ولم يؤثر عنه ما يخالف ذلك إلا في القليل النادر. ولقد قال عنه ابنه عبدالله: مارأيت أبي حدث من حفظه من غير كتاب إلا في أقل من مائة حديث. وكان رحمه الله ينهي تلاميذه عن أن يحدثوا من غير كتاب خشية النسيان أو الخطأ, ويروي أن علي بن المديني كان لايحدث إلا من كتاب, وكان يقول: إن شيخي أحمد بن حنبل أمرني ألا أحدث إلا من كتاب. كذلك من مميزات دروس الإمام أحمد بن حنبل: أنها كانت دروسا خالصة للحديث النبوي الشريف, وللأحكام الفقهية التي تقوم علي ما ورد عن السلف, واختار أن يعيش مع هدي الصحابة والصفوة من التابعين, ومن جاء بعدهم ممن نهج نهجهم, وسار علي طريقهم, ومن أسباب ذلك أنه عاش في عصر تغلب فيه العنصر الفارسي علي العنصر العربي, وظهرت في كثير من الأقاليم الإسلامية فرق شتي, وآراء متعددة, واتجاهات بعيدة عن أحكام شريعة الإسلام, وفلسفات منحرفة عن الحق, وعقائد زائفة. وبعض خلفاء الدولة العباسية كالخليفة المأمون بن هارون الرشيد, قويت في عهده العناصر الفارسية التي أيدت هذا الخليفة. وفي هذه العهود المضطربة اختار الإمام أحمد أن يعيش حياة السلف الصالح, وأن يحلق في آفاقهم, فكان علمه وفقهه هو علم السنة النبوية المطهرة, وفقهها النقي من تلك الأفكار الفاسدة. وكان للإمام أحمد تلاميذ كثيرون, سمعوا منه, ورووا عنه, وساروا علي نهجه, وأحبوه لزهده وعلمه وتواضعه وتقواه. ومن هؤلاء: يحيي بن آدم, وعبدالرحمن بن مهدي, وعلي بن المديني, وأبو حاتم الرازي, وموسي بن هارون, وحنبل بن إسحاق.. وغيره. وقد اجتهد في نقل الفقه الحنبلي عدد كبير من تلاميذه. منهم: ابنه صالح, وهو أكبر أولاده, وتوفي سنة266 ه. ومنهم: ابنه عبدالله, وكان من علماء الحديث, وتوفي سنة290 ه. ومنهم: أحمد بن محمد الأثرم, المتوفي سنة273 ه, وهو الذي قال عن نفسه: كنت أحفظ الفقه والاختلاف, فلما صحبت أحمد بن حنبل تركت كل ذلك. ومنهم أحمد بن محمد الخلال, الذي جمع فقه ابن حنبل ونشره, وتوفي سنة310 ه وكانوا جميعا مثالا للوفاء لشيخهم, وللسير علي منهاجه وفكره.