سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
بيان «مرسى» إلى الأمة.. خطبة «دينية» على منبر «الرئاسة» استخدام صيغة «أهلى وعشيرتى» ينطوى على نقل الخطبة من دائرة الخطاب السياسى إلى «العائلى» وربما «الدينى»
لحظة فارقة فى تاريخ مصر، وقف فيها أول رئيس منتخب أمام كاميرا التليفزيون ليُلقى أول بيان للأمة. جاء البيان فى لحظة عصيبة فى تاريخ مصر، حدث فيها استقطاب خطير بين شرائح واسعة من المصريين، وارتفعت فيها أصوات المعارك اللفظية والمشاحنات الكلامية، وكان المصريون ينتظرون أن يطوى هذا البيان صفحة من كتاب الماضى، ويسجل أول حروفه فى كتاب المستقبل. هذه الأهمية الكبرى لأول بيان للرئيس المنتخب تتطلب تحليلا تفصيلياً للطريقة التى تمت بها صياغة البيان وإلقاؤه، وللحجج وأساليب الإقناع والتأثير التى استُخدمت فيه. وسوف نكون معنيين من خلال هذا التحليل بالكشف عن تصور الرئيس لنفسه وللشعب والعلاقة المحتملة بينهما؛ كما تظهر فى البيان. «أهلى وعشيرتى»: التصور القبلى للمجتمع كيف ينادى الرئيس شعبه؟ بأية صيغة استهلال يبدأ خطابه؟ ما النسق الذى يعتمد عليه فى تصوير الشعب وتصوير علاقته به.. هل يتعامل معه من زاوية المواطنة؛ فيقول «أيها المواطنون»، أم من زاوية الأبوية والأسرية «فيقول أبنائى وبناتى»، أم من زاوية القبيلة فيقول «أهلى وعشيرتى»؟ هذه جميعاً أسئلة لا بد من طرحها على أول بيان للرئيس المنتخب. تكمن القيمة الدلالية لصيغ الاستهلال فى أنها تؤسِّس بشكل أولى العلاقة بين الرئيس والشعب. كما أنها تعكس الكيفية التى يدرك بها الرئيس مواطنيه، والدور الذى يمنحه لهم داخل سياق الخطبة. إضافة إلى أنها تعمل بوصفها أداة من أدوات تدعيم سيطرة الخطيب على سياق التواصل من خلال تحديد النوع الذى تنتمى إليه الخطبة، والقواعد التى سوف تحكم التواصل بين المتكلم والمخاطَب. فحين يستخدم الخطيب استهلال «أيها الإخوة المواطنون» -كما كان الحال مع الرئيس جمال عبدالناصر- ينطوى ذلك على: 1- تحديد النوع الذى تنتمى إليه الخطبة؛ أى الخطابة السياسية. 2- تحديد العلاقة بين الخطيب والمخاطَب؛ أى علاقة المواطنة. 3- تحديد الإطار الذى يحكم هذه العلاقة؛ أى العقد الاجتماعى. 4- تحديد العلاقة بين المخاطَبين أنفسهم؛ أعنى المساواة فى حق المواطنة. أما استخدام صيغة «أهلى وعشيرتى» وما يشبهها فينطوى على: 1- نقل الخطبة من دائرة الخطاب السياسى إلى دائرة الخطاب العائلى وربما الدينى. 2- تحديد العلاقة بين الخطيب والمخاطَب بوصفها علاقة بين «كبير العائلة أو سيد القبيلة» و«الأتباع أو الرعايا»؛ وهى علاقة تقوم على الخضوع والتبعية وليس المساواة والاستقلال. 3- تحديد العلاقة بين المخاطَبين، استنادا إلى طبيعة العلاقة مع كبير العائلة (الرئيس)؛ فالمخاطَبون يشتركون فى كونهم «تابعين» لكبير العائلة (الرئيس). وأخيراً، 4- تحدد هذه الصيغة الإطار الذى يحكم هذه العلاقة، الذى يتشكل من الأعراف والتقاليد التى تتمحور حول الأخلاق القبلية والقروية التى تصوغ مفهوم «كبير العائلة وسيد القبيلة» وتُفعِّله، وليس الدستور الذى يصوغ مفهوم الرئيس ويُفعِّله. من الضرورى توضيح أن استخدام صيغة «أيها الإخوة المواطنون» فى الخطب الرئاسية لا يعنى فى ذاته أن الرئيس يعامل مخاطَبيه بوصفهم «مواطنين»؛ حيث إن استخدام الصيغة لا يعدو أن يكون مؤشرا لفظيا قد تعضده الممارسة أو تنفيه. وقد كان الرئيس المخلوع حسنى مبارك يستخدم صيغة «أيها الأخوة المواطنون»؛ بينما يتعامل مع المصريين بوصفه إلهاً. والعكس صحيح؛ فاستخدام صيغة «أهلى وعشيرتى» لا يعنى فقدان المواطنين حقهم فى المواطنة إلا على مستوى الخطاب؛ ومع ذلك فكلا الاستخدامين يُنجز أشياءً، ويُجهض أخرى. ويبقى للمخاطَب فى النهاية -بواسطة استجابته للخطبة- القدرة على تدعيم صيغة الاستهلال أو رفضها. بعبارة أخرى استجابة المصريين لخطاب الرئيس سوف تحدد وحدها هل يختار لنفسه أن يكون تابعاً لكبير القبيلة أم مواطناً له نفس الحقوق والواجبات التى يتمتع بها الرئيس. المزج بين السياسى والدينى: بوابة للإقصاء أم أثر زائل للذخيرة الخطابية؟ لعل أكثر ما لفت انتباه المصريين هو هذا الحشد من الآيات القرآنية الذى تخلل بيان الدكتور مرسى. بما لم يدع مجالا للشك فى أننا أمام مزج متعمد بين الخطبة الدينية والخطبة السياسية. ولأن هذه اللحظة حاسمة فى صياغة مستقبل مصر، فلا بد أن نعى تماماً خطورة هذا المزج، حتى لو كانت وراءه نية حسنة. وسوف أقوم فيما يأتى بتحديد الفرق بين آيات القرآن الكريم التى تؤسس عماد الخطب الدينية والخطبة السياسية الموجهة للمواطنين، قبل أن أحلل المزج بينهما فى بيان الدكتور مرسى. آيات القرآن الكريم بعضٌ من خطاب دينى مقدس، يُدرك -من قبل المسلمين- بوصفه خطاباً إلهياً. المتكلم فى هذه الآيات هو الله، والمخاطَب هم عباده. ثمة علاقة محددة تربط بين المتكلم والمخاطَب هى علاقة الامتلاك. فإله الناس هو ملك الناس ومالكهم وربهم، والناس هم عبيده وممتلكاته. يتوجه خطاب المتكلم إلى فئة محددة من المخاطَبين هم المؤمنون بعبادته. وهناك استجابة ملزمة للمخاطَب إزاء خطاب المتكلم هى الإيمان والتصديق المطلق. وأقصى ما يمارسه المخاطَب إزاء نص المتكلم بعد حفظه عن ظهر قلب هو محاولة فهم مراده بهدف العمل به. وكل المشكلات التى يمكن أن تظهر أثناء عملية الفهم سببها محدودية قدرات المخاطَب مقارنة بإعجاز نص المتكلم. ومن يخرج على القواعد الملزمة للاستجابة لخطاب المتكلم؛ أى التقديس والتصديق، قد يكون معرضاً للطرد من دائرة الإيمان والإسلام، وللإقصاء الخطابي؛ أى الاستبعاد من مفهوم «جماعة المسلمين». على النقيض من ذلك، تتحدد العلاقة بين المتكلم والمخاطَب فى الخطبة الرئاسية بأنها علاقة بين رئيس ومواطن. هذه العلاقة تقع فى إطار الحقوق والواجبات المتبادلة، ويحكمها عقد اجتماعى يحدد الدستور طبيعته. والخطبة الرئاسية هى نوع من الخطب الاستشارية؛ يعرض فيها المسئول على المواطنين ما فعله أو يفعله أو سيفعله بغرض إعلامهم واستشارتهم، وإقناعهم بالقيام بفعل ما أو ترك آخر. والخطب الرئاسية تتوجه إلى كل المواطنين دون استثناء؛ فهى خطب عامة لا تمارس تمييزا دينياً أو عرقياً أو سياسياً؛ حيث إنها تنبنى على مفهوم «المواطنة» الذى يلغى أيّاً من هذه التمييزات. نظرياً، لا توجد قيود على استجابة الجمهور للخطب الرئاسية، وتتراوح الاستجابة بين المناقشة والحجاج، القبول أو الرفض، التصديق أو التكذيب، التأييد أو الاعتراض، التبرير أو التفنيد. ولا تتأثر العلاقة بين المتكلم والمخاطَب نتيجة لأىّ من هذه الاستجابات؛ فالمخاطَب الذى يناقش الخطاب السياسى للرئيس أو يعترض عليه أو يرفضه أو يفنده يمارس حقاً مشروعاً تكفله المواطنة. والرئيس لا يقبل هذه المناقشة أو الاعتراض أو التفنيد.. إلخ فحسب، بل يقع على عاتقه توفير المناخ المناسب لممارستها. من الواضح إذن أن الفرق بين الخطبة الدينية والخطبة السياسية فرق هائل يماثل بالضبط الفرق بين علاقة الإله بعبيده المبنية على التسليم والرضوخ المطلق، مقارنة بعلاقة الرئيس بمواطنيه المبنية على الحقوق والواجبات المتبادَلة. وعلى الرغم من أنّ الحضور المكثف للآيات القرآنية والعبارات الدينية فى بيان الدكتور مرسى ربما يُفسَّر بأنه تأثر بالذخيرة الخطابية للرئيس، بسبب ألفته للخطاب الدينى، لكونه ينتمى إلى جماعة دعوية، فإن هذا لا يقلل من المخاطر الشديدة التى قد تؤدى إليها هذه اللغة فى حال استمرار استخدامها؛ لأنها ترسخ علاقة سلبية بين الرئيس والمواطنين، إضافة إلى أنها تمارس تمييزاً خطابياً ضد من لا يشاطرون الرئيس نفس المعتقد أو الدين. لقد قطعت مصر شوطاً كبيراً باتجاه إنتاج خطاب سياسى لا يمارس تمييزاً دينياً.. خطاب يستند إلى حجج عامة عقلية ومنطقية، يتفاعل معها الجميع؛ أيّا تكن أفكارهم أو معتقداتهم. وإذا كان الرئيس محمد مرسى قد أكد عزمه على القضاء على جميع أشكال التمييز فى المجتمع، فإن الأحرى به أن لا يُمارس هذا التمييز على مستوى الخطاب، وأن يتوقف تماماً عن استخدام لغة دينية تمييزية فى خطاباته الموجهة للمصريين جميعاً -أقباطاً ومسلمين- وأن يستخدم لغة «وطنية» جامعة، تمكنه من تحقيق طموحاته النبيلة بتأسيس دولة الحرية والقانون. ولاية أم مواطنة؟ تضمن بيان الرئيس محمد مرسى عدداً من العبارات التى تصوغ العلاقة بين الحاكم والمحكوم، من زاوية الحقوق والواجبات.. هذه العبارات تنتمى جميعاً إلى الخطاب الدينى، خاصة فى عصر الخلفاء الراشدين. وقد تكررت عبارة «أطيعونى ما أطعت الله فيكم» بصيغ مختلفة على مدار البيان. وعلى الرغم من القيمة الإيجابية لهذه العبارة لأنها تتضمن وضع الحاكم فى موضع التقييم والمساءلة، فإنها تبدو من زاوية أخرى شديدة الخطورة على مستقبل مصر الثورة؛ لأنها تحاكى نموذجاً فى العلاقة بين الحاكم والشعب، يتعارض تماماً مع التصور المدنى للدولة، ومع كل الدساتير المصرية. يرتكز هذا التصور على مفهوم الطاعة؛ فالحاكم له على «الرعية» حق الطاعة، ولهم عليه حق «الولاية الرشيدة». ويُعدّ هذا إعادة إنتاج صريحة لعلاقة الوالى-الرعية. أما التصور المدنى للدولة فيقوم على علاقة الرئيس-المواطنين، وهى علاقة لا تقوم على الأوامر والنواهى، ولا يحكمها مفهوم الطاعة، بل هى علاقة عقد اجتماعى بين شخص يختاره المواطنون ليكون وكيلا لهم فى أداء مهام محددة، بصلاحيات محددة، ودائرة سلطة محددة. إنها علاقة بين موظف وصاحب عمل؛ الموظف هو الرئيس والشعب هو صاحب العمل. وبالطبع فإن لصاحب العمل اليد العليا فى هذه العلاقة. إن خطورة التصور الذى يعكسه بيان الدكتور مرسى للعلاقة بين الرئيس والمواطنين تتزايد إذا وضعنا فى الاعتبار أن كثيراً من مقولات التراث الدينى التى تخص العلاقة بين الحاكم والمحكوم -التى كُتب معظمها فى ظل ديكتاتوريات دينية مستبدة- تمنح الحاكم سلطات هائلة على رعاياه. ولعلنا جميعاً ما زلنا نتذكر الفتاوى التى خرجت لتُكفر معارضى الرئيس السابق، تحت دعوى «خروجهم على الحاكم». لقد كان الأحرى بالدكتور مرسى أن يلجأ إلى ذخيرة خطابية تنتمى إلى معجم المواطنة والدستور فى حديثه عن علاقته بالشعب، بدلا من تأجيج المخاوف من أن نكون بإزاء تأسيس جديد لدولة استبداد دينى. غير أنه قد توجد أسباب لتقليل هذه المخاوف، منها أن الدكتور مرسى اعتاد فى خطبه وكلماته التى ألقاها فى فترة الدعاية للمرحلة الثانية من الانتخابات أن يستخدم خطاباً شبه مدنى، كما أن النصوص التى تتضمن صياغات دينية للعلاقة بين الرئيس والمواطنين جاءت فى العبارات المرتجلة خارج النص.. وأظن أن الفترة المقبلة سوف تشهد حذراً أكبر فى استخدام مثل هذه العبارات المرتجلة. «أحبائى.. رددوا معى»: إعادة إنتاج الخطاب الإخوانى والدعوى فى ختام بيان الدكتور مرسى للأمة المصرية، استخدم تعبيرين ينتميان إلى الخطاب الإخوانى والدعوى. التعبير الأول هو «أحبائى»، وهى صيغة نداء استهلالى، تشيع فى الخطاب الإخوانى، خاصة فى تجمعاتهم الخاصة. وهى صيغة عاطفية، تجعل من المحبة محوراً للعلاقة بين المتكلم والجمهور، غير أنها صيغة تمييزية؛ لأنها ترتبط ارتباطاً وثيقة بالمحبة الموجودة بين أعضاء الجماعات أو الشرائح المتفقة فى المعتقد أو المذهب. ومن الجلى أن هذه الصيغة تنتهك تقاليد البيانات الموجهة للأمة، التى يُفترض فيها أن تكون تضامنية عامة، تؤكد على عوامل الترابط، ولا تستثنى فئة أو شريحة أو طبقة اجتماعية. كما أن العبارة تمزج بين الخطاب الحميمى (كما يظهر فى خطاب الأسرة والصداقة مثلا)، والخطاب الرسمى (كما يُتوقع فى الخطاب الرئاسى). وهو مزج له بُعد إيجابى، يتمثل فى جوهر فكرة المحبة فى ذاتها، غير أنه قد ينطوى على أبعاد سلبية، ترجع إلى مخاطر نقل العلاقة بين الرئيس والمواطنين من الدائرة الرسمية إلى الدائرة الشخصية. أما التعبير الثانى فهو صيغة أمر: «رددوا معى»، وهى صيغة أمر تُستخدم فى التجمعات الإخوانية، بهدف حفز الحاضرين على التفاعل اللفظى مع المتكلم، كما أنها سمة من سمات الخطاب الإخوانى القائم على الترديد وراء مُلقِّن. وعلى الرغم من أنّ العبارت التى أمر الدكتور مرسى «أحباءه» بترديدها وراءه، كانت تتضمن قيماً إيجابية، مثل المساواة والعمل من أجل مصر، فإن اختيار هذه الطريقة فى ذاتها، ينطوى على تأثر هائل بالتراث الإخوانى فى التخاطب. كما أنه يؤدى إلى وجود آثار من شخصية الداعية، فى شخصية السياسى. ومن المؤكد أن الرئيس محمد مرسى يحتاج بشدة إلى الفصل بين الأدوار الاجتماعية التى يقوم بها، وأن يُنحى جانباً بعض هذه الأدوار -مثل دور الداعية- لصالح الدور الأهم الذى عليه أن يقوم به؛ أعنى دور «رئيس الدولة». الارتجال والإسهاب: الخلط بين البيان والخطبة كان المتوقع أن يكون بيان الدكتور مرسى موجزاً، يتضمن شكر جميع المصريين، والتأكيد على تبنى مبدأ المساواة التامة بينهم، وتهيئة الجو لمصالحة وطنية، والتأكيد على أولوية العمل على النهوض بمصر، وتحقيق الأهداف الاجتماعية للثورة، مع الإشارة إلى الالتزام بالمعاهدات الدولية، والسعى لعلاقات دولية طبيعية متوازنة. وبالطبع فقد تعرض الدكتور مرسى لمعظم هذه النقاط، لكنه استطرد كثيراً، وكرر كلامه إما نصّا أو بصياغات أخرى. ولم يُفلح -فى بيانه الأول- فى الالتزام بتقاليد البيانات الموجهة للأمة فى مثل هذه المناسبات، والتى تكون شديدة الإيجاز. وربما نتج هذا التطويل أيضاً عن استغراقه فى تفاصيل، بدا أنها غير ضرورية فى هذا السياق، مثل إلحاحه على ذكر أصحاب المهن الذين يوجه إليهم التحية، أو حرصه على شكر محافظات مصر، محافظة بعد أخرى. لكن السبب الرئيسى لهذا التطويل فى البيان هو المزج بين الارتجال والقراءة من النص. خرج الدكتور مرسى كثيراً عن النص الذى كان يقرأ منه، وربما يرجع هذا إلى اعتياده على الارتجال فى بياناته وخطبه السابقة، ووجود شعور بعدم الراحة؛ بسبب الحاجة إلى النظر المتواصل فى الورقة؛ خاصة أنه يبدو أن الذاكرة قصيرة المدى التى تحتفظ بالكلمات فى الذهن لعدة ثوان بعد قراءتها، لم تُسعفه كثيراً؛ فكان ينظر للورقة بين كل كلمة والأخرى. ونتيجة للشعور بفقد التواصل البصرى مع الجماهير التى يُطل عليها من الشاشات، كان يلجأ إلى الارتجال الذى يتيح له النظر بشكل دائم إلى الكاميرا. وفى عباراته المرتجلة كان يُعيد شرح أو تفصيل ما قرأه أو سيقرؤه من النص؛ وهكذا كانت معظم الفقرات المرتجلة زائدة عن الحاجة. غير أن هذا المزج بين الارتجال والقراءة من النص يُمكن أن تُستشف منه أمور أخرى، لعل أهمها أن الميل للارتجال ربما يكون علامة على ارتفاع مؤشر الفردية، الذى يجعل الشخص يتمتع بدرجة جيدة من الاستقلالية فى مواجهة الآخرين؛ خاصة مَنْ هو محسوب عليهم أو محسوبين عليه؛ وهم فى حالة الدكتور مرسى، بالأساس، جماعة الإخوان المسلمين. وأخيراً فإن الميل للارتجال يبدو متسقاً مع الذخيرة الخطابية للدكتور مرسى، المتأثرة بشدة بنمط الخطابة الدينية، والكلمات الوعظية التى عادة ما يشارك فيها أعضاء جماعة الإخوان المسلمين، والتى يغلب عليها الارتجال والإسهاب. ربما يرجع الميل للاستطراد والإسهاب فى بيان الدكتور مرسى إلى الخلط بين مفهوم البيان الموجّه للأمة والخطبة الموجهة لجمهور فعلى فى مكان عام. فالبيان نوع من أنواع التواصل السياسى، هو الأكثر رسمية من بينها. لذا يُفضل عادة أن يكون مكتوباً، وأن يلتزم الرئيس بالنص المكتوب دون خروج عليه. كما يكون البيان عادة مكتوباً باللغة القومية (العربية الفصحى)، وفى الغالب فإن البيان يقتصر على تناول موضوع واحد، فى نقاط محددة، ويُلقى فى زمن قصير. على خلاف ذلك فإن الخُطبة يمكن أن تكون مكتوبة أو مرتجلة، وتتعرض لعدد كبير من الموضوعات، ويمكن أن تستغرق زمناً طويلا قد يصل -كما فى بعض خطب عبدالناصر والسادات- إلى ساعات متواصلة. ولأن جمهور الخطبة يكون متعدداً ومتنوعاً، فلا مشكلة فى تكرار بعض الأفكار، أو استخدام تعبيرات عامية، إذا كان هذا مفيداً فى توصيل وجهة نظر الرئيس إلى الجماهير وإقناعهم بها. ويبدو أن الدكتور محمد مرسى قد تعامل مع بيانه الموجه للأمة على أنه خطبة، فخرج على النحو الذى خرج عليه. لقد اجتازت مصر طوال الفترة الانتقالية لحظات عصيبة، وها هى تجد نفسها فى بداية طريق جديد، آمل أن يكون الخطاب السياسى الرسمى، والخطاب الرئاسى على وجه الخصوص، أداة من أدوات التضامن والوحدة والتكاتف، وحافزاً على النهضة، لا سبباً فى التنابز والخلاف وتعطيل أحلام الأمة.