ظلت جماعة الإخوان المسلمين تنظيماً غير شرعى منذ حلها عام 1948، وأطلق عليها فى السنوات الأخيرة «الجماعة المحظورة» حتى قام الشعب المصرى بثورته فى 25 يناير 2011 وعرفت الجماعة طريقها إلى ميدان التحرير وشارك أعضاؤها وقياداتها فى فعاليات الثورة مستخدمة إياها لتحقيق مقصدها الرئيسى باعتلاء موجتها للوصول إلى حكم البلاد! وبرغم أن الموقف القانونى للجماعة لم يتغير من كونها «محظورة»، فقد كان نشاطها فى الحقل السياسى علنياً وكانت لها «كتلة برلمانية» كانت تبدو قوة تدافع عن الحريات والحقوق الأساسية للشعب، وتؤكد مدنية الدولة وتنادى باستقلال القضاء ودعم دولة القانون والمواطنة. ولكن الموقف تغير كلية بعد أن تحولت «الجماعة المحظورة» إلى «الجماعة الحاكمة» منذ أن ركبت قطار الثورة وأقنعت المجلس الأعلى للقوات المسلحة بخارطة طريق لإدارة المرحلة الانتقالية تصب أساساً فى مصلحتها، وبعد أن نجحت فى الفوز بأكثرية مقاعد مجلس الشعب فى انتخابات مجلسى الشعب والشورى عام 2011، ثم بعد أن تمكن مرشحها د. محمد مرسى من الوصول إلى منصب رئيس الجمهورية! وفى خضم الاحتقان الوطنى الناشئ عن الهجمة الشرسة للجماعة على السلطة القضائية ورغبتها الجامحة فى السيطرة على مقدرات مؤسسة القضاء ضمن سياستها الرامية إلى «التمكين» و«الأخونة»، يصبح من المفيد مقارنة التحول فى موقف الجماعة من القضاء، حين كانت جماعة يتعرض أعضاؤها للاعتقال والتعذيب والملاحقة الأمنية، وهى الفترة التى كانت طوال النظم السابقة حتى قامت ثورة 25 يناير، وبين موقفها الآن حين أصبحت فى سدة الحكم تتحين الفرص للإيقاع بسلطة القضاء ومحاولة إهدارها كما تحاول بالنسبة لباقى مؤسسات الدولة! ونعرض فى هذا المقام إشادة الجماعة باستقلال القضاء وفقاً لمبادرة «معا نبدأ البناء.. مبادرة من أجل مصر» التى أطلقتها بدعوة من المرشد العام فى شهر مارس 2011 بحضور رؤساء أحزاب وقوى مدنية الذين وافقوا على المبادرة واقتراحات للإصلاح التى تضمنتها، حيث نصت فى مجال القضاء على «كفالة استقلال القضاء بجميع درجاته، بإصدار قانون استقلال القضاء الذى أعده نادى القضاة منذ وقت طويل ووضع كل الشروط لإبعاد القضاة عن أى مظنة أو مطمع أو تهديد أو استثناء، وإلغاء كل أنواع المحاكم الاستثنائية وضمان عدم محاكمة أى إنسان إلا أمام قاضيه الطبيعى، والفصل بين سلطتى الاتهام والتحقيق، وأن تكون النيابة مستقلة غير تابعة لوزير العدل، وألا يكون للسلطة التنفيذية ممثلة فى رئيس الجمهورية حق تعيين رؤساء المحاكم العليا (الدستورية والإدارية العليا والنقض) والنائب العام، وإنما يكون اختيارهم إما بالأقدمية أو الانتخاب من بينهم، وأن يكون التفتيش القضائى تابعا لمجلس القضاء الأعلى وليس لوزير العدل، وإعادة النظر فى كل القوانين التى صدرت فى العهد البائد، حيث إن كثيرا منها صدر لتقنين الظلم وتحقيق مصالح طبقة رجال الأعمال ومسئولى الحزب الوطنى». وفى الجزء الخاص بالمهام العاجلة والملحة أعادت المبادرة التأكيد على إصدار قانون استقلال القضاء الذى أعده نادى القضاة، والإفراج عن جميع المعتقلين والمسجونين السياسيين بمقتضى أحكام صادرة من محاكم استثنائية، وإعادة محاكمة الجنائيين منهم أمام قاضيهم الطبيعى، وإلغاء المحاكم الاستثنائية بأنواعها كافة. وفى برنامجه الرئاسى حدد الدكتور مرسى موقفه المؤيد لاستقلال القضاء فذكر نصاً ضرورة «حفظ سيادة القانون من خلال بسط وتعزيز سلطان القضاء وضمان استقلاله والعمل على تنفيذ أحكامه واعتبار جريمة عدم تنفيذ أحكام القضاء جناية يعاقب عليها القانون بالحبس والعزل»، وبعد بضعة أيام من انتخابه رئيساً لم يجد الدكتور مرسى غضاضة فى مناقضة حكم المحكمة الدستورية العليا بعدم دستورية مواد فى قانون انتخابات مجلس الشعب وأصدر قراراً جمهورياً بدعوة مجلس الشعب المنحل إلى الانعقاد ثم اضطر إلى إلغائه بعد حكم المحكمة الدستورية بعدم «دستوريته»! كان موقف جماعة الإخوان المسلمين مؤيداً ومدافعاً عن استقلال القضاء حين كانوا يحاولون كسب ثقة الثوار وإقناعهم بأنهم مع الثورة وحريصون على تحقيق أهدافها. ولكن سرعان ما تبدل موقف الجماعة وحزبها حديث الولادة حزب الحرية والعدالة بمجرد أن تمكنت من الحصول على أكثرية مقاعد مجلس الشعب فى انتخابات 2011/2012. وقد تمثلت بداية الهجمة الإخوانية على السلطة القضائية فى محاولة تمرير مشروع لتعديل قانون المحكمة الدستورية العليا عن طريق مجلس الشعب «المنحل» فى مايو 2012، حيث وصف المستشار طارق البشرى تلك المحاولة «.. وهكذا فإن حزب الحرية والعدالة، يريد أن يستخدم أكثريته فى مجلس الشعب وسيطرته على المجلس، يريد أن يستخدم هذه السلطة التشريعية لتحقيق مكاسب حزبية ذاتية، تأثيرا على المحكمة الدستورية وضمانا لبقائه ودعما لمرشحه فى الرئاسة، وهو ورجاله لا يدركون ما فى قولهم وأقوالهم من عدوان صارخ على السلطة القضائية وتهديد لواحدة من كبرى هيئاتها». كما وصفت المستشارة تهانى الجبالى، النائب السابق لرئيس المحكمة الدستورية العليا ذلك المشروع الذى وافقت عليه لجنة «الاقتراحات والشكاوى» بمجلس الشعب بأنه «انتهاك» و«هدم» لدولة وسلطة القانون، ومحاولة لتعطيل المحكمة عن أداء دورها. وأشارت الجبالى إلى أن مشروع القانون يعطل المحكمة عن أداء دورها ومراقبة التشريعات والقوانين التى يصدرها مجلس الشعب، وهذا تدخل من السلطة التشريعية فى عمل السلطة القضائية. ولما فشل مجلس الشعب المنحل فى تمرير مشروع تعديل قانون المحكمة الدستورية العليا، فقد تكفل أعضاء حزب الحرية والعدالة وحلفاؤهم من أحزاب تيار الإسلام السياسى بتنفيذ المهمة من خلال دستورهم الصادر فى 2012 الذى نص على قصر تشكيل المحكمة على رئيس وأقدم عشرة أعضاء بما ترتب عليه استبعاد المستشارة الجبالى وآخرين، وهذا يعنى على حد قول المستشار البشرى «أن المادة 235 (من الدستور الجديد) فصلت ما يزيد من قضاة المحكمة على العشرة، فصلتهم من وظائفهم بها ونقلتهم إلى وظائف أخرى. وهكذا تضمن مشروع الدستور الذى سيستفتى عليه الشعب المصرى لتنظيم دولته وحياته الديمقراطية لمدى من السنين المقبلة التى لا يعرف عددها، تضمن قرارا بعزل قضاة من المحكمة الدستورية من وظائفهم. والسؤال الذى يثور هو «أليس فى ذلك نوع من التدليس؟» وأضاف المستشار البشرى «ولنا أن نقلق على مصير استقلال القضاء كله، فإن من يسعى سعيا ظاهرا غير مستتر لعزل كبار رجال القضاء وتعيين آخرين مكانهم، حسبما ينبئ عن ذلك الإعلان الدستورى الصادر فى 21 نوفمبر الماضى، وحسبما يظهر من نصوص المحكمة الدستورية فى مشروع الدستور المطروح، إن ذلك مما يتعين أن نحذر منه ويتوجب علينا أن نشير إليه إبراء للذمة وإعلانا لموقف المعارضة الصريحة تجاه هذا السعى، فإن المؤسسة القضائية المصرية، أيا كان ما يعتريها من شوائب وقتية، هى من أهم ما بنته الحضارة المصرية الحديثة استقلالا وكفاءة ومستوى مهنيا وأخلاقيا شديد الاحترام، وهى جزء مما يتعين استبقاؤه والدفاع عنه». وتواصلت هجمة الإخوان المسلمين على القضاء، وإصدار رئيس الجمهورية «المنتخب» إعلاناً دستورياً فى 21نوفمبر 2012 تم بمقتضاه عزل النائب العام د. عبدالمجيد محمود للمرة الثانية بعد أن هب قضاة مصر وأعضاء النيابة العامة ضد قرار عزله الذى تم تصويره بالمخالفة للحقيقة على أنه قرار تعيينه سفيراً لدى دولة الفاتيكان، ثم هبت مصر كلها فى ثورة عارمة ضد ما تضمنه ذلك الإعلان الدستورى من تحصين لقرارات رئيس الجمهورية «المنتخب» غل يد القضاء عن نظر أى طعون ضد تلك القرارات السابقة على صدور الإعلان الدستورى واللاحقة عليه، إلى جانب إعطاء رئيس الجمهورية «المنتخب» السلطة التشريعية. وصاحب صدور تلك القرارات والإعلانات الدستورية المتصادمة مع الدستور والقانون والديمقراطية حصار همجى لميليشيات «الجماعة الحاكمة» ترتب عليه منع قضاتها من عقد جلساتها لفترة طويلة. واليوم تشهد مصر أن جماعة الإخوان المسلمين تعاود الهجمة على القضاء بتعديلات لقانون السلطة القضائية يؤدى إلى مذبحة جديدة للقضاء أبعد تأثيراً وأشد خطراً من مذبحة 1969، وهذا المشروع مرفوض من كافة قضاة مصر الشرفاء فى جميع الهيئات القضائية، إلا من نفر قليل ممن يحسبون أنفسهم بالباطل على الأسرة القضائية وهم فى حقيقتهم مشايعون للجماعة. ويقول الرئيس «المنتخب» فى حواره مع قناة الجزيرة «القطرية» «هناك قلق مشروع لدى الناس من بعض الأحكام التى يصدرها بعض القضاة»، ويصرح عصام العريان بحسب بوابة «الوطن» «إنه يتعين على مجلس الشورى أن يتحرك بسرعة؛ لتبنى الإصلاحات القضائية، التى أشعلت غضبا عارما بين القضاة» كما كتب، «أنه ينبغى عدم تأجيل إقرار القانون، الذى يحدد صلاحيات السلطة القضائية»! وتتواصل محاولات الإخوان فى تعطيل حصول المستشار عبدالمجيد محمود على الصيغة التنفيذية لحكم بطلان تعيين النائب العام الحالى برد المحكمة! وكالعادة، حين تواجه رئيس الجمهورية «المنتخب» وجماعته مقاومة رافضة لقراراته المتصادمة مع الديمقراطية ودولة القانون، فإنه يتم التراجع الظاهرى عنها إلى حين، كما أعلن عن نية الرئاسة تجميد تعديل القانون لما بعد انتخابات مجلس النواب، ثم تعود الآلة الإخوانية إلى معاودة الهجمة وتحقيق خطة «التمكين» والأخونة». والأمل ألا تخمد مقاومة الأسرة القضائية والقوى الوطنية والشعب المصرى كله لتلك الهجمة الحالية ضد سلطة القضاء، وإلى أن يتحقق النصر بإذن الله، لك الله يا مصر.