على مدار أسابيع متتالية طرحنا فى هذه المقالات تساؤلاً مشروعاً وملحاً على عقول وقلوب كل المصريين «من ينقذ الجماعة من نفسها؟ ومن ينقذ مصر من الجماعة؟». وخلصنا إلى أن أزمة الجماعة أغلقت عليها حتى أصبحت بغير مخرج حتى ولو ظن أعضاؤها غير ذلك. وهو ما رتب أهمية طرح التساؤل الثانى وهو: «من ينقذ مصر من الجماعة؟»، وخلصنا إلى أن اللاعبين السياسيين فى الساحة السياسية جميعهم يشكلون مكونات الأزمة التى تعيشها مصر ابتداء من رئيس كان وما زال ممراً لتسليم سلطة الدولة والشعب إلى جماعة وفد منها وانتمى إليها فأصبحت هى التى تمارس السلطة وتتحكم فيها سواء بشكل ظاهر أو مستتر. والجيش الذى أصبح العمل السياسى عبئا عليه فخرج منه بغنيمة دستورية وإمبراطورية اقتصادية لم يعد يتحدث عنها أحد ومن ثم فقد رضى من الغنيمة بالإياب. فهو خلع دوراً لن يعود إليه إلا إذا انهارت الأمور تماماً أو كانت على شفا جرف هار ونتمنى ألا تصل الأمور إلى ذلك إن شاء الله. وانتهينا أيضاً إلى أن المعارضة السياسية متخمة بأمراض الاستبداد وقصور الرؤية وعدم وجود منهج وخطة للخروج بالبلاد من مأزقها، فضلاً عن ارتباكها الواضح وتشتتها.واليوم وفى ختام هذه المقالات نطرح الحل الذى نرى أنه سوف يخرج مصر من أزمتها وينقذ مصر من الجماعة بل إنه لن ينقذها من الجماعة فقط وإنما سوف ينقذها من الاستبداد، ذلك الإرث التاريخى الذى جثم على مقدرات الدولة المصرية منذ زمن سحيق حتى استحقت هذه الدولة أن توصف بأعمق دولة مستبدة فى حياة البشر. إن قصص الاستبداد التى عاشتها مصر وكانت مضرب المثل فى الكتب المقدسة وفى الحكايات الشعبية أكثر من أن تروى أو تحصى وتعد. ومن ثم فإن تكسير أوتاد الاستبداد فى الدولة المصرية وإنهاكها وسد منابتها عمل تاريخى وبطولى آثر هذا الجيل الشاب الثائر أن يقوم به ويعمل له. إن هذه الثورة الشعبية الخالصة التى أطلق شرارتها الشباب وما زال يمسك بمفاتيحها وسيظل كذلك حتى تتحقق له أهدافه الذى سعى إليها وهى عيش وحرية وعدالة اجتماعية، هذا الشباب هو الأمل فى إنقاذ مصر من موجات الاستبداد التى وفدت إليها وتحكمت فيها وآخرها حكم جماعة ظلت عقوداً تسوق إليه الوهم. وتتاجر بآلامه وأماله حتى إذا تمكنت منه مارست نفس الأطر المستبدة دون تغيير أو تبديل، وسعت سعياً حثيثاً للاستيلاء على ثورته وسلطته وأقصته وعذبته وحاكمته بذات أطر الاستبداد التى ألفتها السلطة التى ثار عليها الشعب. إن الجماعة التى لم تكن فكرة الثورة يوماً على أجندتها السياسية أو استراتيجيتها الفكرية منذ أن اعتلت سلطة الحكم فى الدولة المصرية لم تفكر أبداً فى تفكيك بنية الاستبداد التى أحاطت بممارسة السلطة زمناً طويلاً وهو ما أدى إلى اعتقاد الكثيرين بأن الرئيس الذى وفد منها لم يختلف كثيراً عما سبقه سواء من حيث خطابه السياسى المستبد أو ممارسته الأكثر استبداداً لسلطة الحكم. الأمر الذى كان وما زال يوقد شعلة الثورة فى نفوس هؤلاء الشباب. هذا الشباب الذى يصر على الذهاب بسلطة الدولة إلى نظام ديمقراطى حديث ينتهى فيه عصر الاستبداد تماماً. ولذلك فإنه مهما استبدت هذه السلطة به فإن قدرته على المقاومة والدفاع عن حلمه تزداد صلابة يوماً بعد يوم، قد تضيق به السبل وقد تنغلق فى وجهه بعض أبواب الأمل إلا أنه بكفاحه وصبره ودأبه سوف يصل إلى هدفه وهو إنجاح ثورته. لقد جاهدت السلطة الوليدة منذ أول يوم فى تسفيه وتحجيم تأثيرات هذا الشباب الثائر على مجريات الأحداث السياسية والاقتصادية فى مصر الثورة بدعوى انتهاء الشرعية الثورية ودخول السلطة مرحلة الشرعية الدستورية التى يجب أن يكون القول الفصل فيها للمؤسسات الدستورية التى صنعت على أعين السلطة. بما يعنى إغلاق ملف الثورة والانتهاء منه واعتبارها ذكرى يحتفى بها فى كل عام مرة بخطاب سياسى منمق أو حفل فنى مبهج ثم تخلص السلطة -كل السلطة- لمن لملم مغانمها واستبد بها واستخدم آلياتها لسحل وتعذيب وسحق الثوار ووصفهم بكل نقيصة واستخدام ترسانة القوانين سيئة السمعة والمقيدة للحقوق والحريات لتكميم الأفواه وتشويه الثوار والتمكين للاستبداد والانفراد بالسلطة على الوجه الذى تسعى إليه سلطة الجماعة كل يوم. فالملاحظ أن هذه السلطة الوافدة بعد الثورة أقل احتراماً لأحكام القضاء وأكثر استخفافاً بها وأكثر ضيقاً بالحريات العامة. وما فتئت تعاير الشعب باتساع صدرها وسعة أفقها وأنه لم يكن يجرؤ على أن يقول ما يقوله فى ظل النظام السابق. وكأنه لم يحدث فى مصر ثورة ولم يضحِّ الشعب بزهرة شبابه وراحة شيوخه حتى يضن علينا حكامنا الجدد بالحرية التى انتزعها الشعب انتزاعاً. إن استمرار الثورة لتفكيك الإطار الاستبدادى للسلطة فى مصر والحد من قدرة الحاكم على الاستبداد والإطلاق فى ممارسة السلطة فرض عين على المصريين جميعهم وفى القلب منهم شباب الثورة الذى أطلق شرارتها وظل حارساً لأهدافها مصراً على استكمالها. إن المرحلة التى تعيشها الثورة المصرية الآن هى أخطر مراحلها إذ الصراع فى هذه اللحظة التاريخية يدور بين أصحاب الثورة الحقيقيين وهم الشباب الذين أطلقوها ورعوها وصكوا أهدافها وشعاراتها وبين سلطة انتسبت إليها ولم تكن وفية لأهداف هذه الثورة وإنما جاءت امتداداً لسلطة انتقالية كان همها الأكبر هو تعديل النظام بأقل قدر من الخسائر فى الأشخاص والمؤسسات وكانت الإجراءات التى تلجأ إليها هذه السلطة سواء أكانت سياسية أم اقتصادية أم اجتماعية تدور فى هذا النطاق ولا تخرج عنه.. فماذا أنتجت كل هذه الإجراءات غير الارتداد عن أهداف الثورة؟ إن المرحلة القادمة من عمر الثورة المصرية سوف يتولد فى رحابها قيادات سياسية جديدة شابة من الجيل الأول والثانى للثورة سوف تغير وجه الوطن وسوف تفرض آليات جديدة لممارسة السلطة. إننى على يقين من أن الأجيال التى شاخت قلوبها وعقولها ووهنت إرادتها من كثرة ما ألفت الخضوع إلى الحكم المستبد عشرات السنين لن تستطيع أن تنجز أهداف الثورة التى سطرها الشعب بإرادته وحناجره فى شوارع مصر وميادينها فقد فات أوان هؤلاء ولم يعد لهم مكان تحت شمس الثورة التى عرت كل شىء وفضحت كل مستور. إن شباب الثورة الذى نجح فى ثمانية عشر يوماً فى أن يزيح رأس النظام وظن أن الأمر انتهى لا بد أن ينتبه إلى أن الأمر يتعلق بنظام مستبد متعدد الأوتاد والأركان مرتبط بشبكات متداخلة من المصالح الداخلية والخارجية التى تتفق على أن تظل مصر منهارة فقيرة بائسة محتاجة متسولة لا تقدر على شىء غير الكلام. هذا النظام المستبد الذى ما زال كما هو لن تنكسر شوكته إلا بضربات الثوار لتغيير بنية الاستبداد التى يرتكن عليها. وهى مسألة ليست صعبة بل أكثر سهولة مما يتصور الكثيرون فالعزيمة والإخلاص لفكرة الثورة والإيمان بقدرتها على التغيير والانطلاق نحو نظام ديمقراطى يقوم على دستور تتوازن فيه السلطات وتصان فيه الحقوق والحريات وتقيد فيه سلطة الحاكم وتكون فيه السلطة للشعب حقيقة وفعلاً هو الأمل والهدف الذى سوف تظل من أجله الثورة مستمرة وفاعلة وقادرة. إن النظام الحاكم الذى أرست دعائمه الجماعة كان يسعى لأهداف مغايرة تماماً لكل ذلك. ومن ثم فقد حرص هذا النظام على تأميم الدستور وصناعته على عينه ليصادر حق الثورة فى تحقيق أهدافها. هذا الطريق الذى يسير فيه هذا النظام بغير تؤدة ولا روية بدعوى استكمال مؤسسات الدولة والحق أنه يقوم بتفكيك هذه المؤسسات وإعادة تشكيلها مرة أخرى وفق ما يرى ويهوى. الأمر الذى جعل هذا النظام وجماعته وأهله وعشيرته فى مواجهة شعب لن يسلم أبداً فى ضياع سلطته أو الاستيلاء على ثورته. فالثورة مستمرة والشباب الثائر أمل مصر فى تفكيك بنية الاستبداد فذاك هو الذى سوف ينقذ مصر من الجماعة سواء الجماعة التى ذهبت أو الجماعة التى أتت فكلاهما فى الاستبداد جماعة.. الثورة مستمرة.