يمكننى القول بثقة شديدة إن الصحافة المصرية حققت اختراقاً مهنياً كبيراً يضعها فى مقدمة المنظومات الصحفية العالمية فى استخدام المصادر المجهَّلة. منذ نشأت الصحافة فى مصر فى مطلع القرن التاسع عشر لم يحدث أبداً أن انطوت على هذا القدر من الأخبار والقصص المنسوبة إلى مصادر غير محددة. من بين القواعد الأساسية فى العمل الصحفى والإعلامى قاعدة تؤكد «ضرورة نسب المعلومات والآراء والتقييمات لمصادر واضحة.. كلما أمكن». وتجعل هذه القاعدة من نسب الأخبار لمصادر معلنة وواضحة التزاماً أساسياً لتقديم عمل صحفى جيد، وتجيز تجهيل المصدر فى حالات محددة. يمكن للصحيفة أن تنسب الأخبار والتصريحات والآراء لمصدر غير معلن بسبب مراعاة إحدى قيم العمل الصحفى الرشيد، وهى قيمة الإنصاف. تعنى قيمة الإنصاف ضرورة ألا يقع ضرر غير موضوعى على أى طرف جراء التغطية الصحفية؛ ومن ذلك أنه لا يصح أبداً أن يحصل الصحفى على معلومة مهمة للمصلحة العامة وتقع ضمن أولويات الجمهور من مصدر يمكن أن يتضرر ضرراً غير موضوعى بسبب إتاحته تلك المعلومة، ثم يقوم الصحفى بنشر اسم المصدر. تجيز القواعد المهنية والأصول المتعارف عليها هنا أن يحجب الصحفى اسم المصدر حتى لا يقع عليه ضرر غير موضوعى؛ كأن يتم نشر اسم مسئول غير مصرح له بالحديث إلى الصحافة مقترناً بمعلومات مهمة وحيوية سربها لصحفى، فتتم الإطاحة بذلك المسئول أو يتم نقله من عمله أو توقيع الجزاء عليه جراء تسريبه تلك المعلومات. يحرص الصحفيون الملتزمون بقواعد العمل الصحفى الرشيد على حماية مصادرهم لأسباب تتعلق بالأمانة والاستقامة فى التعامل من جهة، ولأسباب عملية أخرى تتصل بضرورة تعزيز ثقة المصادر فى الصحافة، وبالتالى ضمان استمرار تزويدها بالأخبار. لكن أدلة الإرشادات التحريرية ومدونات السلوك المهنية حرصت على وضع شروط صارمة عند التصريح للصحفى بنشر أخبار منسوبة لمصادر غير معلنة. فيجب أن يسأل الصحفى نفسه عدداً من الأسئلة قبل أن ينشر تلك المعلومة مجهّلة المصدر؛ منها مثلاً ما يلى: هل هذا المصدر الذى يريد حجب اسمه فى موضع يسمح له بالاطلاع على المعلومة التى زودنى بها؟ ولماذا سرب لى هذا المصدر تلك المعلومة؟ وهل يريد المنافسون الحصول على تلك المعلومة أو أنها غير ذات قيمة؟ وكيف يمكن أن يتم التثبت من المعلومة التى سربها لى هذا المصدر من مصدر آخر ليس له صلة به؟ وإذا كانت تلك المعلومة أو ذلك التقييم يمس طرفاً آخر، فما رأى هذا الطرف الأخير؟ إنها مجموعة من الأسئلة التى يجب أن يحرص الصحفى على إيجاد إجابات شافية عنها قبل أن يستخدم تلك الرخصة المقننة وينشر معلومات غير محددة المصدر. لكن للأسف الشديد بات واضحاً لنا جميعاً أن الكثير من الزملاء يستخدمون تلك الرخصة بإسراف شديد، ومن دون التأكد من القواعد الملزمة لاستخدامها؛ حتى أصبحت عبارة «قالت مصادر» هى أكثر العبارات التى يمكن أن تقرأها فى الصحافة المصرية. عندما تشيع عبارة «قالت مصادر» فى منظومة صحفية بدرجة مثل تلك التى نشهدها فى مصر الآن يجب أن نقلق جداً؛ لأن ذلك يعنى انخفاض مصداقية الصحف، وتضرر سمعة الصحفيين، والتشويش على وعى الجمهور، وزيادة اختلاق الوقائع، وتفاقم تشويه الحقائق، وفساد البيئة المعلوماتية، وزيادة درجة الارتباك والغموض. للأسف الشديد، لم أعد قادراً على الاستناد إلى ما تنشره معظم الصحف المصرية فى أى محاولة جادة للاستنتاج أو التحليل؛ لأن عدد الأخبار التى يتم تكذيبها كبير، وعدد الأخبار التى لا نعرف لها مصدراً أكبر. يؤدى الاستقطاب السياسى الحاد الذى تشهده البلاد حالياً بسبب الأداء المتدنى للسلطتين التنفيذية والتشريعية، إلى زيادة درجة الميل لدى الأطراف الفاعلة لإرسال الرسائل وإطلاق بالونات الاختبار دون تحمل مسئولية المواجهة. كما أننا لا نمتلك قانوناً لتداول المعلومات حتى هذه اللحظة، إضافة إلى غياب ثقافة المعلومات أصلاً عن المجتمع، وعدم تحلى السياسيين والمسئولين التنفيذيين بالشجاعة الكافية أحياناً للتصريح بأسمائهم فى أوقات الغموض واحتدام الصراع. لكن كل هذه العوامل لا تبرر أبداً هذه الزيادة القياسية فى استخدام عبارة «قالت مصادر». إذا لم تكن هناك وقفة صادقة جادة من الصحفيين مع أنفسهم لمراجعة هذه المشكلة الكبيرة، فإن العواقب ستكون وخيمة على حرية الصحافة، وجودتها، وثقة الجمهور فيها، وعلى المصلحة الوطنية فى الوقت نفسه.