التاريخ يعيد نفسه.. يبدو أن تلك المقولة ليست عبارة جوفاء تخرح علينا للاستهلاك الدرامى.. فقدر أبناء حابى.. النيل العظيم، أن يظلوا يلملمون أشلاء أوزوريس.. أبد الدهر.. وكأنها لعنة فرعونية لا فكاك من سحرها.. وعد لا مهرب منه.. فعلتها إيزيس فى الأسطورة القديمة.. رغم خيانة ست الشرير الذى هو كالعادة -وكما فى كل زمان ومكان فى دراما الحياة التى لا تمل التكرار- أقرب الناس إلى أوزوريس.. أخيه.. .. وتظل العنيدة السمراء تجمع أشلاء الحبيب حتى تنجح.. لأ وكمان تنجب له الإله الطيب حورس.. طبعاً.. مش فرعونية شاطرة.. ولكن أين نحن من زمن الحواديت.. وعالمها المسحور ونهاياتها الساذجة.. حيث دائماً الخير ينتصر.. ففى دراما الواقع لا توجد نهايات سعيدة لأنه ببساطة ليس هنالك نهاية أصلاً.. وأوزوريس القرن العشرين احترف الشتات ما بين الأضداد.. علمانية.. أصولية.. ليبرالية.. قومية.. اشتراكية.. قبطية.. سلفية.. إخوانية.. ولا يهم إيزيس الغلبانة ومهمتها الصعبة.. بينما وقف «ست» خلف أحد أقنعته الألف يمارس هوايته فى التأكد من استحالة المهمة. ولكن أحياناً.. أحياناً يفاجئ هذا الشعب العجيب حتى نفسه.. ويبهر العالم بأشياء غير متوقعة فعلها فى سحيق الزمان وخلدتها آثار ينحنى لها التاريخ.. كما فعلها هؤلاء الصغار الذين خرجوا علينا من عالمهم الافتراضى. وتركوا أجهزتهم مفتوحة.. ليبعثوا أزوريس فى 25 يناير ويعيدوا الدماء تجرى فى الأوصال الهامدة. ولكنهم من السذاجة الغريرة أن تصوروا أن (ست) وقد ارتدى قناع العم الطيب يمكن أن يؤتمن على الجسد المبعوث من جديد.. فقدموا ثورتهم له قرباناً على صينية من ذهب.. وعادوا إلى أجهزتهم وعالمهم الافتراضى.. وتركوا الساحة للمدعين والوصوليين. ولأن الأنسان المصرى بطبعه لا يتعلم من الخبرات السابقة.. ومهما (يتلسع من الشوربه مصمم أنه ما ينفخش لا فى الزبادى ولا حتى فى الشربة) لتسمع التبريرات الساذجة: - خلينا نجرب.. أصل مش كل المنتمين للنظام القديم سيئين (مع أن زيد نفسه لا يخجل أن يعترف أنه زى عبيد) كما أن كل أعوان عبيد خرجوا من جحورهم ليسخروا كل أموالهم وآلياتهم لزيد.. يا ترى ليه؟ وتأتى قمة السذاحة فى هذه العبارة الحمقاء المستفزة «هو كان حد يقدر يقول لأ».. أيوه فى ناس قالوا لأ ودفعوا ضريبتهم كاملة.. من حياتهم وحريتهم.. لم يفقدوا فقط رفاهية الجلوس فى المكاتب المكيفة ذات العشرة أمتار. - طب هم المتدينين وحشين يعنى، ما هم اتعذبوا كتير ولا علشان شوية ستات خايفين ما يقدروش يلبسوا البكينى يبقى خلاص (مع أن التجارب أثبتت أن استخدام الدين يكون للأسف لتحقيق مطامع شخصية.. مما يسىء لأصحابه لا للدين ويفقدهم مصداقيتهم ويكفى إلقاء نظرة على فلسفة بعض مرجعياتهم أمثال سيد قطب، لندرك هول ما كانوا يدعون له من تدمير للمجتمع وإلباس الباطل ثوب الحق، ثم هل من الدين الحنث بكل وعد تعده ثم أكون مطالباً بتصديقك للأبد). لتقف إيزيس فى حيرة بين دماء أبنائها المسفوحة على أعتاب معابد حرية وهمية وبين أولويات وحسابات كهنة لا تضعها فى الاعتبار.. أو العودة للوراء (وكأنك يا أبوزيد ما غزيت).. ولكن علمتها الأيام أن تعانى كل شىء القهر.. الظلم.. الفساد.. إلا شيئاً واحداً لن تعانيه أبداً هو سر شبابها الدائم وخصوبتها التى تباهى بها العالم.. إنه اليأس الذى لم ولن ينال منها. بعيداً عن الانتقام وصغائره فقد تعلمت أن تتعداه فيد الله مبدعة فيه كما نهاية الفرعون الأخير.. وها هى تنتظر أن «يختشى» الكبار قبل الصغار ويتوقفوا عن الحسابات التى لا تنتهى ويقدم كل رفيق رفيقه خطوة أمامه.. هكذا يصبحون على قلب رجل واحد.. كلمة واحدة.. أمل واحد.. وطن واحد. ورغم كل الانكسارات وآلام خيانة أقرب الأقرباء ودموع لم تجف على أكرم من فينا.. ستظل تحلم بفتاها.. فارسها.. مليكها.. تجمع أشلاءه النابضة بالحياة وتلملم.. وتلملم فيه حتى نهاية العالم.