رمضان بقنواته ومسلسلاته وبرامجه ينبهنا إلى واحدة من حقائق العصر: لم يعد الصوت الواحد ولا الذوق الواحد ولا الرأى الواحد ممكناً. لقد نشأ الكبار منا فى زمن كان فيه الإعلام ضيّق النطاق محدود التنوع، فالإذاعات قليلة والتليفزيون له قناتان فقط، والصحف ثلاث لا رابع لها. لقد كانت قناتا التليفزيون والإذاعات القليلة والصحف الثلاث مملوكة لدولة، يمثلها وزير للإعلام، يلعب دور قائد الأوركسترا الذى يقود منظومة إعلامية هدفها تسلية الناس وتوجيههم وتشكيل أخلاقهم وأفكارهم وصياغة سلوكهم وأذواقهم. لقد نشأ الكبار منا فى زمن كان يكفى فيه أن تقول «المسلسل» أو «فيلم امبارح» ليعرف الجميع عما تتحدث، وكانت المسلسلات والأفلام ومواد إعلامية أخرى كلها أدوات فى يد الدولة تستخدمها لتشكيل عقول المواطنين وتوجهاتهم. أما الآن فقد فقدت الدولة هذا الاحتكار، وبات تشكيل أذواق المصريين وأفكارهم متروكاً لقنوات تتنافس لجذب المشاهدين والإعلانات، ولم يعد هناك قائد للأوركسترا الإعلامية، سواء تم الإبقاء على منصب وزير الإعلام أو إلغاؤه. الشروخ فى جدار احتكار الدولة الإعلامى بدأت فى الظهور فى اللحظة التى فقدت فيها الدولة القدرة على احتكار وسائط تداول منتجات الفكر والفن. البداية كانت عندما تم اختراع جهاز الكاسيت، وعندما انتشر هذا الجهاز فى بلادنا مع المصريين المقبلين من الخليج وليبيا فى السبعينات، وعندما وجد الكاسيت لنفسه مكاناً محترماً فى السيارات التى تكاثرت أعدادها بسرعة مذهلة. الكاسيت هو أول وسيلة بث مستقلة وغير مركزية لنشر الأفكار والفنون، فلا أحد يستطيع احتكار الكاسيت ولا السيطرة على ما يسمعه الناس على أجهزتهم الخاصة. استفادت الموسيقى الشعبية من الكاسيت، فكان أحمد عدوية بداية لسلسلة طويلة من المطربين الشعبيين، استمرت فى التكاثر والتطور حتى وصلنا إلى موسيقى المهرجانات، بعد أن ظن بعضنا أن شعبان عبدالرحيم هو ذروة الغناء الشعبى ومحطته الأخيرة. الدعاة الدينيون استفادوا من الكاسيت، فبينما كانت الدولة ترفض الاعتراف بالغناء الشعبى باعتباره اعتداء على الذوق العام، أو فى الحقيقة اعتداء على الذوق المفضل لدى الطبقة الوسطى المتعلمة من أهل المدن، فإنها رفضت أيضاً الاعتراف بالدعاة الدينيين الذين تصادمت آراؤهم مع الآراء السائدة فى المؤسسة الدينية الرسمية، باعتبارهم خطراً على الوسطية الإسلامية وعلى الاستقرار السياسى. الكاسيت كان هو الوسيلة التى حملت الشيخ كشك والشيخ المحلاوى وغيرهما للآلاف ممن لا يستطيعون الاستماع إليهم فى مساجد كانت تُعرف بأسمائهم. وفيما أحدثت خطب «الخمينى» المسجلة على الكاسيت ثورة إسلامية فى إيران، فإنها لم تنجح فى مصر سوى فى اغتيال رئيس الجمهورية فى عام 1981. ظهرت قنوات التليفزيون الفضائية فى مطلع التسعينات، وبعد خمسة عشر عاماً وجدناها تكتسح المشهد الإعلامى تماماً. أذكر كيف كان أحد الإعلاميين المشهورين يسعى للحصول على رخصة محطة تليفزيون أرضية، فيما رفض العرض الذى قدمته له الدولة بتأسيس محطة فضائية، متعللاً بأن الفضائيات لا يمكنها أن تنافس الأرضيات فى أسواق الإعلان والمشاهدة. مرت السنون وانقلبت الآية، ولم يعد هناك أى وجود لمحطات التليفزيون الأرضية، وأصبح لزاماً على جميع القنوات البث فضائياً إذا أرادت الفوز بأى نسبة مشاهدة ولو تافهة، وأصبح التليفزيون الحكومى -الذى كان أرضياً- يكافح من أجل البقاء بعد أن كاد المشاهدون يختفون، وكادت موارد الإعلانات يصيبها الجفاف. المهم فى هذا المشهد هو تلك التعددية التليفزيونية التى جعلها البث الفضائى ممكنة. فبعد عصر القناتين الأولى والثانية أصبح للمشاهدين رفاهية الاختيار بين عدد من القنوات يصعب حصرها، والتى تقدم كل منها توليفة خاصة، ورسالة إعلامية مختلفة -ولو قليلاً- عما يقدمه سواها. وإلى جانب التعددية التليفزيونية تعددت الإذاعات والصحف، وإن ظل التليفزيون متربعاً على القمة كمصدر للأخبار والأفكار والتسلية. الإنترنت أضافت بعداً وعمقاً جديداً للتعددية الإعلامية، فعلى شبكة الإنترنت يوجد عدد لا نهائى من منصات إطلاق الأفكار ومواد التسلية، وإذا كانت الأقمار الصناعية أتاحت البث التليفزيونى لأقاليم جغرافية واسعة، فإن العالم كله هو نطاق الإنترنت. ثورة وسائط التواصل الاجتماعى التى جاءت مع الإنترنت منذ منتصف العقد الماضى أتاحت منابر ومنصات للأقليات الصغيرة فى شئون الرأى والذوق والحالة المزاجية والنفسية وخبرات الحياة، ونظمتهم فى أندية وجيتوهات افتراضية تمنح أصحابها شعوراً بالتميز والهوية وتأكيد الذات والقوة التى تمكنهم من رفض محاولات التلاعب بعقولهم لتشكيلها وفقاً لآراء الآخرين. وسط هذه التعددية لم يعد المواطنون أسرى لدى الدولة تشكل عقولهم وأذواقهم بالطريقة التى تراها، ولم يعد تنميط الوعى والذوق العام أمراً ممكناً، فالتفتت والتعددية وحرية الاختيار هى سمة العصر التى لا يمكن تجاهلها. ما زال الوقت مبكراً لتقييم أثر هذه التحولات الكبرى، وما إذا كنا بهذه التحولات نخطو خطوة كبيرة إلى الأمام، أم أن السبيل قد انفتح لانحطاط إضافى. لكن المؤكد فى رأيى هو أن أثر تحولات تكنولوجيا الإعلام والتواصل سيتوقف على ما تحقق فى مراحل التوجيه والاحتكار السابقة. ففى البلاد التى تم فيها ترسيخ قيم العقلانية وحب المعرفة والتسامح والتعددية سيكون لتعددية الإعلام والتواصل أثر مختلف عما تتركه نفس التعددية فى بلاد منقسمة تسود فيها روح التعصب والخرافة واحتقار المعرفة. فبينما سيكون ممكناً فى المجموعة الأولى توظيف الحرية والتعددية التى أتاحها التقدم التكنولوجى لترسيخ وتطوير قيم تم زرعها فى مرحلة سابقة، فإن مجموعة البلاد الأخرى، ونحن من ضمنها، سيكون عليها البحث عن طريقة تسمح بمواصلة توجيه وتشكيل آراء وأذواق الأفراد دون تقييد التكنولوجيا أو الحد من التعددية، وهذا تحد لو تعلمون عظيم.