طريق طويل ممتد، تفوح منه رائحة تزكم الأنوف، حيث تمتد على جانبى الطريق ترعة المنصورية، وعلى القرب منها يمتد خط الصرف الصحى للقرية. «قرية المنصورية».. مياه بطعم «المجارى» وفواتير نار وأمراض الأهالى «كبد وفشل كلوى» المخلفات والقمامة تتراكم على جانبى الترعة، تغطى أمتاراً طويلة من المياه، تزداد كثافتها حتى تحولت إلى تلال تحجب حركة تيار المياه، يحلق فوقها الباعوض والحشرات، ويطوف فوقها حيوانات نافقة، ذلك المشهد يمتد حتى دخولك إلى قرية المنصورية، التابعة لمركز إمبابة فى محافظة الجيزة، حيث يعانى كثير من الأهالى من أمراض الكبد والفشل الكلوى، وأمراض جلدية. «أبوالسعودى»: «معاشى 350 جنيه بشترى بيه ميّه من محطة لجنة الزكاة» تكفى 10 أفراد يفتحون صنابير بيوتهم، فتنزل مياه لونها أسود، يغلبها رائحة مياه الصرف الصحى، يشوبها الصدأ والرمال، بينما يتجمع عدد كبير من أهالى القرية، يومياً بعد صلاة العصر، أمام منفذ بيع المياه، يحملون الجراكن، ويقفون فى طوابير طويلة، ثم يعودون إلى بيوتهم بخطوات مثقلة، سيدات ورجال، حاملين نصيبهم من المياه، التى تقاتلوا من أجل شرائها والحصول عليها. «الوطن» استمعت إلى أهالى القرية، الذين اشتكوا من غياب أى عمليات تطهير لترعة المنصورية، التى أدت إلى ندرة المياه، وإلى اختلاطها بمياه الصرف الصحى. يجلس بظهر محنى قليلاً، يقول يحيى أبوشلبى، الذى يبلغ من العمر 75 سنة، الأب ل7 أبناء: «بمجرد فتح الحنفية، بتنزل ميّه مجارى، ريحة زفرة لا تطاق، ده لما تكون أصلاً مش مقطوعة»، وأضاف أن معظم أهالى قرية المنصورية، سواء كانوا كباراً أو صغاراً فى السن، يعانون من أمراض الفشل الكلوى، وأمراض الكبد، حيث تفوح من المياه رائحة الصدأ، ورائحة الصرف الصحى، ولأن معظم أهالى القرية من البسطاء، لا يملكون رفاهية تركيب فلاتر خاصة للمياه فى بيوتهم، وحتى من ركب تلك الفلاتر التى تتكون من 7 مراحل لتنقية المياه، لم تنجح فى القيام بدورها فى تطهير المياه، حيث وجدوا الشمع الذى يقوم بالتنقية، يتحول كله إلى اللون الأسود فى يوم واحد. «كلنا جالنا أمراض، الكلى تعبانى، وحتى أولادى تعبوا»، يضيف يحيى أبوشلبى أن معظم أهالى قرية المنصورية يلجأون إلى مكان لتنقية المياه، أقامته لجنة الزكاة، حيث يملأون منه المياه فى مقابل جنيه لكل «جركن»، قائلاً: «فيه ناس عدد أفراد أسرتها كبير زى بيتى، ده بيعمل تكلفة كبيرة، علشان تشترى ميّه تكفى 10 أفراد أكل وشرب كل يوم، وتلاقى حد يشيل الجراكن وينقلها». ويختم «يحيى» حديثه قائلاً: «آخر فاتورة ميّه وصلتنى من الشركة كانت ب1500 جنيه، الدولة بتلم فلوسها لحد آخر مليم، لكن مش من حقنا نحاسب المسئولين إزاى سايبين الترعة بالمنظر ده»، مؤكداً أنه قدم أكثر من شكوى لشركة المياه، ولكن لم يستجب أى مسئول للنظر فى شكواه، ما يجبره على دفع فواتير المياه حتى لا يتعرض للمساءلة القانونية. وتقول سعدية راضى، 55 سنة، ربة منزل: «الأطفال بيجيلهم أمراض جلدية، وأولادى وبناتى شعرهم بيقع بسبب الميّه»، وأضافت أنها تضطر لشراء مطهرات، لإضافتها على المياه أثناء غسيل الأطباق والملابس، ولكن كل تلك المحاولات لا تكفى، حيث لاحظت أمراضاً جلدية تصيب أحفادها الصغار وأولادها، كما بدأ شعرهم فى التساقط بشكل مستمر، وبعد عرضهم للكشف الطبى، أكد طبيب الجلدية أن كل تلك الأعراض هى نتيجة المياه الملوثة. تتابع «سعدية»: «بضطر أفتح الحنفية ساعتين تلاتة قبل الغسيل لحد ما الميّه لونها يفتح شوية»، مؤكدة أن تلك هى الطريقة التى يلجأ لها معظم أهالى القرية، ما يتسبب فى هدر الكثير من المياه، واضطررنا لشراء مياه لكافة الاستخدامات الشخصية سواء استحمام أو غسيل أو من أجل الأكل والشرب، ولكن بقية أهالى القرية لا يملكون تلك الرفاهية، ويعانون من الأمراض، ويشتد عليهم المرض بسبب غياب الرعاية الصحية». ويقول صلاح وفا، يبلغ من العمر 60 سنة، أحد كبار قرية المنصورية، الذى يلجأ إليه الأهالى لفض الخلافات والقائم بالأحكام العرفية: «مشكلة المياه بقالها سنين، فى ظل تجاهل تام من المسئولين، ميّه الشرب مخلوطة بميّه الصرف الصحى، ودى حاجة تكتشفها بمجرد ما تفتح الحنفية»، ويضيف أن أهالى القرية يشربون مياهاً ملوثة، ويأكلون طعاماً تم ريه بمياه الصرف الصحى، ما يقضى على حياتهم. «فاتورة كل شهرين ب400 جنيه ميّه»، يقول «صلاح» إن قرية المنصورية لا تجد من شركة المياه سوى الفواتير المتلاحقة، التى تم مضاعفة المبالغ فيها فى الشهور القليلة الماضية، رغم معاناة انقطاع المياه لساعات طويلة، ووصول المياه ملوثة تماماً إلى البيوت، قائلاً: «إحنا عايزين مسئول يكشف عن نتائج تحاليل الميّه الموجودة فى القرية لكن طبعاً مش هيحصل ومش هيعترفوا إنهم بيقتلوا الناس بالبطىء». ويكمل «صلاح» قائلاً: «ترعة المنصورية لا يتم تطهيرها على الإطلاق، على امتداد الترعة تجد المخلفات تغطى الترعة، وبجوارها مياه الصرف الصحى الناتجة عن بيوت القرية، مكشوفة وبدون تغطية، وتتجمع عليها الحشرات، كما يضطر بعض المزارعين إلى الرى بمياه الصرف الصحى». يقول «صلاح» إنه حاول أن ينظف ويطهر الترعة، بالتعاون مع بقية الأهالى، وأضاف: «جبنا عربيات نقل وفضلنا ننقل الزبالة اللى سدت الترعة، بس بعد كده بطلنا لأن التكلفة بتكون كبيرة جداً». وتابع «صلاح»: «قرية المنصورية تعانى من تجاهل تام من الدولة، حيث تم التصريح أكثر من مرة بأن يتم ردم وتغطية المصرف وفصله عن الترعة، وبأن يتم تطهير الترعة، التى يعتمد عليها أكثر من 40 ألف مواطن، ولكن كل ذلك لم يحدث، وإنشاء وحدات تنقية المياه لن يكون فعالاً، ما دام لم تحل المشكلة الرئيسية، وهى تغطية المصرف وتطهير الترعة». ويقول أحمد أبوالسعودى، 57 سنة: «معاشى الشهرى 350 جنيه، وبضطر أشترى مياه كل يوم تكفى 10 أفراد، يعنى بشترى بفلوس المعاش، الناس هنا بتشترى مياه مهما كانت ظروفها لأن كتير جالهم فشل كلوى»، وأضاف أن محطة تنقية المياه الموجودة فى القرية صغيرة أقامتها لجنة الزكاة، وتبيع المياه من خلالها لأهالى القرية بجنيه واحد لكل جركن، فى حين أن محطة تنقية المياه، التى تعدها شركة المياه، تظل مجرد مبنى خاوٍ، لا يؤدى دوره على مدار الخمس سنوات الماضية، حيث لم يفتتح بعد، ورغم ذلك يأتى إليه الموظفون يقضون عدة ساعات يومية. «كأن شركة المياه بتبيع لنا الوهم، بييجى الموظفين يقعدوا الصبح يشربوا الشاى ويمشوا آخر النهار، مفيش عليهم رقابة ولا متابعة»، ويضيف قائلاً إن معامل تنقية المياه لن تتمكن من القيام بالدور المنوط بها، مهما مرت المياه على مراحل متعددة للتطهير والتنقية، لأنهم متغافلون عن أصل المشكلة، وهى غياب تطهير ترعة المنصورية، ودخول مياه الصرف الصحى عليها، وما دام لم يتم الفصل بين مياه الشرب ومياه الصرف الصحى لن تثمر معامل تنقية المياه عن شىء. وأمام وحدة بيع المياه، التى أعدتها لجنة الزكاة، يتجمع سيدات ورجال وأطفال، فى محاولة للحصول على المياه، بينما يعانى الأطفال أثناء حمل «الجركن» الممتلئ بالمياه، يمضون خطوات صغيرة، ثم يتوقفون فى طريقهم واضعين «الجركن» على الأرض، يتحرك سائقو التكاتك لتوصيل السيدات المسنة أثناء نقل المياه إلى منازلهم. تقول صباح محمد، 27 سنة، ربة منزل، أم لأربعة أولاد: «وحدة بيع الميّه بتفتح من العصر لحد المغرب كل يوم، الناس بتبقى كلها متجمعة هنا فى طوابير لنقل الميّه»، تضيف «صباح» أنها غير متأكدة من مدى صلاحية المياه التى يتم تنقيتها وبيعها للناس من خلال تلك الوحدة، ولكن أهالى القرية يلجأون لشراء تلك المياه لكونها الاختيار الوحيد. تحكى «صباح» عن معاناة أهالى القرية فى الحصول على المياه، قائلة: «كنا فاكرين إن الوحدة دى هتكون خيرية ومش هياخدوا مننا فلوس، لكن الست الكبيرة اللى بتاخد منهم جركن لو مش معاها الجنيه بيرفضوا يروحوها بالميّه»، تضيف قائلة: إن المياه تحولت إلى كابوس يومى بالنسبة لأهالى قرية المنصورية، حيث يعانى الأطفال من الأمراض، خاصة الأطفال حديثى الولادة، حيث تظهر بقع فى أجسادهم: «ابنى جلده كله تعب من ميّه الحنفية، بقيت بضطر أشتريله ميّه علشان أحميه بيها والكلور مابيطهرش الميّه اللى بنغسل بيها، الأطفال بتعانى». بينما تقول أسماء عبدالرحمن، 30 سنة، ربة مزل، أم ل5 أولاد، إن بيتها يقع على ضفاف ترعة المنصورية، قائلة: «الترعة والمصرف المكشوف منبع للتلوث، بهايم ميتة وزبالة وحشرات، بيقولوا هيردموا المصرف لكن مابيحصلش»، تؤكد «أسماء» أنها على مدار سنوات طويلة لم تشهد تطهيراً حقيقياً للترعة، أو محاولات جادة لفصل مياه الصرف الصحى عن مياه الشرب. تؤكد «أسماء» أنها تصحو من النوم، على مشهد القمامة المتراكمة لعدة أمتار، التى تحجب تماماً مياه الترعة، بينما تنبع من تلك المنطقة رائحة بشعة لا تزول، قائلة: «الميّه ماتصلحش لأى حاجة إحنا شايفين مصدر الميّه قدامنا ملوث، فطبيعى إن الحنفية تنزل تراب وصدا وميّه مجارى». تختم «أسماء» حديثها قائلة: «لازم حد يتحرك قبل دخول فصل الصيف، الحشرات بتكتر على الترعة، وكل أطفال القرية بيمرضوا». ويحكى محسن عوض، مزارع، 45 سنة، عن معاناته فى الحصول على مياه صالحة للرى، قائلاً: «الأهالى مشاركين فى الأزمة الموجودة، الناس اللى بتطلع ترمى بهايمها وزبالتها كلها فى الترعة وهما عارفين إن محدش هيحاسبهم»، مضيفاً أن بعض أهالى القرية كانوا يقومون بنقل المخلفات الموجودة فى الترعة، كما كان بعض الأهالى التى تطل بيوتهم على الترعة، يقومون بتطهير المنطقة التى أمامهم، وذلك خوفاً على أولادهم من الحشرات، ولكن مع مرور الوقت توقفت الجهود الذاتية، نظراً للتكلفة الكبيرة لنقل تلك المخلفات، بينما غابت جهود الدولة فى التطهير، حيث تحولت الترعة إلى مقلب للنفايات. يقول «محسن» إن هناك الكثير من الفلاحين الذين يضطرون للرى بمياه المجارى، وذلك لندرة مياه الرى، مضيفاً: «الترعة من كتر تراكم الزبالة نشفت، ميّه المجارى مفتوحة على ميّه الترعة، والناس عايشة جنب مصرف مكشوف، كل شوية يقولوا هيردموه مش بيتردم».