منذ نحو 135 عاماً كانت ديون مصر قد وصلت في نهاية عهد الخديوي "إسماعيل" إلي مبلغ 126 مليون جنية إسترليني ، فلما تعثرت مصر و فشلت في سداد تلك الديون، أنشأ الدائنون ما أسموه "صندوق الدين" من مندوبين عنهم كانت مهمتهم تتلخص في إستلام الإيرادات الحكومية ثم توزيعها بمعرفتهم للتأكد من "رشادة" الإنفاق الحكومي حتي سداد كامل الديون - ألا يُذَكرُكم هذا الأمر ببرنامج الإصلاح الإقتصادي الذي يضعه صندوق النقد لنا الآن و يُرَوجُ له وكلائه المحليون. ثم كان الإحتلال البريطاني لمصر في 1882 بذريعة حماية حقوق الدائنين، لتظل مصر تعاني من الإحتلال و تدفع أموالاً طائلةً لسداد القروض و فوائدها حتي إندلاع الحرب العالمية الأولي حيث كان رصيد الديون قد إنخفض بالسداد إلي 86 مليون جنيه إسترليني ثم إنخفض مرة أخري في عام 1943 إلي 39 مليون جنيه إسترليني. و حينها قدم وزير المالية "أمين عثمان" مشروع "تمصير الدين"..يا له من مسميً براقٍ لمشروعٍ يبدو وطنياً، لكن....لنتمهل قليلاً، "فأمين" باشا لا يفعلها. لم يُمصر "أمين عثمان" الديون الأجنبية فينتزعها من أيدي الأجانب و يقصرها علي المصريين، لكنه قام فقط بتغيير "عُملة" الدين من جنيه إسترليني إلي جنيه مصري و أصدر بذلك سندات تملكها المصريون و الأجانب علي حدٍ سواء، ليصير رصيد الديون الأجنبية "صفراً" و تحل محلها ديونٌ محليةٌ بنفس القدر في لُعبةٍ مُحَاسبية شيطانية. و لما كانت بريطانيا "العظمي" في حاجة لتمويلٍ إنفاقها الحربي، فقد توجهت صوب سبائك الذهب المصرية تنهبها في مقابل كومة من السندات حررتها لنا وصلت قيمتها إلي 430 مليون جنيه إسترليني. هكذا قام أجدادنا بسداد ديون الخديوي "إسماعيل" للدائنين الأوروبيين الذين ما لبثوا أن إمتدت أيديهم إلي أرزاقنا فنهبوها كعادتهم و كتبوا لنا أوراقاً لا تغني و لا تُسمن من جوع و لم يُسددوا منها شيئاً ذا بال. و يُفسر هذا ما يذهب إليه مُغرمو العهد الملكي من أن "فاروق" الأول و الأخير كان قد ترك مصر و هي دائنة لبريطانيا و هو أمر غير صحيحٍ فنياً. لم تُقرِض مصر بريطانيا "العظمي" شيئاً، فالإقراض يقتضي أن تكون للدائن حرية أن يُقرض أي مبلغٍ يشاء لمن يشاء وقتما يشاء، و هو ما لم يحدث في حالتنا تلك. ما حدث لم يكن سوي أن نهبت بريطانيا ذهب أجدادنا تحت سمع و بصر وكلائها المحليين. قبل الغزو العراقي للكويت و منذ نحو 25 عاماً، كانت ديون مصر الخارجية قد وصلت الي 49.9 مليار دولار. فلما إندلعت حرب تحرير الكويت، شاركت مصر فيها بقوة و أسقط الدائنون العرب و الأجانب جزءاً كبيراً من تلك الديون، بل و ضَخّوا بمصر أموالاً طائلةً تبقي منها 9 مليار دولار إحتفظ بها "مبارك" بالبنك المركزي منذ ذلك الوقت إلي أن تم إستخدامها مؤخراً فيما أُطلق عليه إسم "خطة تحفيز الإقتصاد". إنتهي عهد "مبارك" الفاسد و قد بلغ حجم الديون الخارجية 35 مليار دولار و الداخلية 741 مليار جنيه ليصير حجم الديون الخارجية 46 مليار دولار و الداخلية 1,319 مليار جنيه في نهاية ديسمبر 2013. أي أن الديون الخارجية قد إرتفعت منذ نهاية عهد "مبارك" الفاسد إلي الآن بنحو 31% بينما إرتفعت الديون الداخلية بنحو 78% و هي نسبٌ لو تعلمون فلكيةٌ لم يشهدها تاريخ الإقتصاد المصري الحديث، خاصة و أنه لم تصحبها أي تنمية تُذكر. "ماذا أنت فاعلٌ بنا؟" سؤال أتوجه به إلي رجل الإقتصاد دولة رئيس وزراء مصر الذي زادت ديونها في عهده (سبعة أشهرٍ فقط) بنحو 3 مليار دولار و 128 مليار جنيه و مازال يسعي للمزيد. يا دكتور "ببلاوي"، تعلمنا دروس التاريخ أن للخلاص من الديون المتراكمة ثمنٌ سياسيٌ و عسكريٌ فادحٌ تسيل لأجله دماءٌ كثيرة، فتاريخ خلاصِ مصر من ديونها إرتبط علي نحو ما "بالحروب" التي لا ناقة للمصريين فيها و لا جمل كما حدث بالحربين العالميتين الأولي و الثانية ثم حرب تحرير الكويت. يا دكتور "ببلاوي" تعلمنا دروس التاريخ أيضاً أن الإقتراض لغرض الإنفاق علي إستيراد المواد و السلع الإستهلاكية هو سفهٌ كبيرٌ و جريمةٌ بحق المستقبل تتحمل بموجبها الأجيال القادمة تبِعاتِ قرارٍ لم تشارك فيه، فمصر تقترض "الآن" كي تأكل و تشرب و تستهلك دون إنتاج و لا تنمية، فما أن يفرُغُ ما إقترضته من مالٍ ستسعي -علي يديكم الكريمتين- للمزيد من الإقتراض حتي تنفق لتستمر علي قيد الحياة و لتقوم بسداد ما إقترضته سابقاً. و هكذا تدخل مصر الدائرة الجهنمية: قروض تُفضي إلي مزيدٍ من القروض لينتهي بها الأمر مهزومة فاقدة لإستقلالية قرارها السياسي فتقبل بما يُمليه عليها الدائنون و اللصوص الدوليون. يا دكتور "ببلاوي" نحن نريد التنمية المستقلة لنترك إرثاً حضارياً للأجيال القادمة لا ديوناً طائلة تُكبلَ حريتهم و إستقلالهم فيصبوا لعناتهم علينا. يا دكتور "ببلاوي".........كفاك ديوناً و لتُصلِح حقاً أو لترحل عنا يرحمك الله.