السينما التى تُبقِى لذاتها مكان فى داخلك، هى التى تدفعك على أن تُبعثر جزء من منظومة فكرك، ومن ثم تدفعك لكى تبذل مجهودا إضافيا فى إعادة هيكلته من جديد، مزدانا بمفهوما غير معهود أو استنتاج مغاير عن الحياة، عن الكيفية التى نواجه بها مصائرنا، وعن ما إن كان لنا يد فى تشكيل هذه الأقدار من الأساس. فيلم"الماضى" لأصغر فرهادى، هو الفيلم الذى يفعل مع عقلك فعلة مماثلة، فبعدما تغادرك صورته، تبقى فى حالة ذهنية غاية فى التيقظ، على الرغم من إنهاكها تهرع خلف حقيقة هذا السيناريو الممتلأ والذى يبدو وكأنه يقتطع واقعا حياتيا من سياقه ليقدمه إليك على شريط فيلمى، يُحرض على إعادة تدوير الفكرة ويعزلك بمنأى عن قالب التنميط. هل الماضى جزءا لا يتجزأ من صياغة الحاضر ؟؟ هل يُعقل أن تكون له يدا فاعلة فيما هو آت ؟؟، فبالعمل الدقيق على خلق عدد من الشخصيات التى تربطها متسلسلة علاقات بالغة التعقيد ،تعرّض فرهادى إلى متن هذه التساؤلات وغيرها، أشار على استحياء ببعض الأجوبة، واستبقى الأخرى لمتلازمة لا تنتهى من التخمينات والتفسيرات. فذروة جمال سيناريو فرهادى أن عقدته تتمثل فى مدى التحام شخصياته ببعضها، بكل فوضوية ماضيهم وبوهيمية ما ينتظرونه من أوقات قادمة. ووقع هذا الصدام بدا بهذه القوة الدرامية لأنه أدمج عناصره الفنية السخية فى اتقانها معا فى نقطة التقاء مناسبة لتُحدث كل هذا الكم من العمق، الذى ستحاول السطور القادمة تناوله فى شىء من التفصيل. الشخصيات وتعقيد العلاقات فيما بينهما شخصية مارى، شخصية تبدو على قدر زائف من القوة لا تلمك مثله حقيقة، ليس لديها الجرأة الكافية لكى تواجه من حولها ومن قبلهم ذاتها، وهذه السمة على وجه الخصوص هى ما تورطها فى مشكلات مع من حولها أفدحها مع أحمد طليقها. ينطوى شخصها على قدر من الأنانية يتضح فى شىء من معاملتها لإبنتها لوسى وإنما يتبدى الجزء الأكبر منه فى علاقتها بسمير. والسيناريو على قدر من الفصاحة التى لا تجعله فقط يحدد سمات لشخصية ما ويدوام فى الحفاظ عليها، وإنما بلغ فى قدرته على أن يُضَمّن هذه السمات فى تفاصيل رمزية ساهمت فى ايضاحها بشكل أجمل، ففى المشهد الذى تلا استقبال مارى لأحمد فى المطار أخبرته أن رسغها يؤلمها، ومن ثم تعذرت عن كونها لم تحجز له إقامة فى أحد الفنادق لأنها لم تتوقع وفائه بوعده فى المجىء، وبعدها ركنت سيارتها بشكل خاطىء ليضطر أحمد فى تحريك السيارة والوقوف بها على مبعدة حتى لا تخالفها الشرطة، فهى لم تُخبره بحقيقة ألم رسغها حتى عندما علق عليه ببساطة_أنتِ أيضا تكبرين فى السن_ لم تصارحه حينها أن الألم بسبب حملها من الرجل الآخر الذى ستتزوجه بعد إنهاء إجراءات طلاقهما، وبنفس المراوغة كذبت بشأن الحجز فى الفندق فهى تريد وبكل رغبة أن يقيم أحمد فى شقتها، وعلى نفس المنوال تهربت من مواجهته بأن ثمّة رجلا آخر من الأساس، وتمادت فى أن تستعيد اعتياديتها فى الاعتماد عليه وركنت السيارة بشكل بدائى، ليُصلح هو ورائها فعلتها كما سيحدث فى عدد من مواقف آتية باقى الفيلم، فالسيناريو من مشهد لقائهما الأول أوضح لك جزء كبير من طبيعة الشخصيتين فى انعكاس تعامل كل منهما مع الآخر، واستمر فيما بعد بالتوازى مع الحدث يتعمق فى ترسيخ انطباعاتك الأولى عنهم. ترى مارى وهى تتعامل بغشامة مع الصغير فؤاد (ابن عشيقها)، تنهره وتجرح كبرياؤه فى لامبالاة وقلة حيلة، يزيدان من عنفه وهياجه، ليأتى أحمد ويكسب وده فى أقل من لحظات ويزيل آثار ارتباكها فى ادارة شئونها من جديد، وهذا تماما ما يحدث مع لوسى (ابنتها الكبرى) فهى تبدو تجاهها على درجة عالية من الجحود والرغبة المبالغة فى ترأيب صدع علاقتهما بمحاولة السيطرة عليها بعنف وما يزيد ذلك إلا من نفور الفتاة وزيادة وطأة سوء التفاهم بينهما، فتراها أقرب ما تفعله فى لحظات التأزم هذه أن تُلقى باللوم على أحمد، وكأنها تنفض عن ذاتها شر الهزيمة وتستغيث به بشكل أو بآخر ليزاول مهمته فى حل ما مضت هى فى تعقيدته. العلاقة بين أحمد ومارى، علاقة حب حقيقية لم تنتهى بعد، وبالأخص من طرف مارى، فرغم كل الوشيش والفوضى المحيطة مع قدوم أحمد تشعر بها فى أكثر حالاتها اطمئنان بوجوده، لوهلة يمكن أن يطرأ على ذهنك فيها أنها تتعمد أن تستطيل المشاحنات لكى يبقى لأنها ببساطة لا تملك شيئا من بعد مغادرته. ثمّة جملة معبرة أتذكرها من فيلم الشاطىء ل دانى بويل تقول " إن الأمور الرائعة التى يمكن أن تكون سببا فى إنجذابنا بشدة إلى شخص ما هى ذاتها التى تقودنا فيما بعد للنفور منه" وهذا بالضبط ما حدث فى علافة مارى بأحمد، هى عشقت فيه ارتياحها فى الاعتماد عليه ومن ثم ترفعت مع مرور الوقت _وفقا لطبيعتها الامبالية بعض الشىء_ أن تعترف أو تقدر ذلك، فأثقلت عليه بدون قصد أو إلمام بما تفعل، ليبدأ هو بعدها بتعبيره عن السأم مما يحدث فلا ترى هى من شكوته إلا نوع من التقصير، فهو فى نظرها إلى آخر لحظة لا يوفى بوعوده وقالتها له بحسرة تنبأ عن ماضى طويل من هذه التعقيدات بينهما " أتمنى أن تفى بوعدك ولو مرة واحدة فى حياتك"، وربما عشق أحمد فيها احتياجها إليه ومع رغبته فى الايفاء بالوعود مضى يُمنيها باستيعاب أكبر لجميع تفاصيلها وزلاتها وهمومها وحياتها بأكملها ولكنه فيما بعد أدرك الحِمل الذى بات فوق رأسه وعرقل حياته هو بالتبعية، فتراه فى أحد المشاهد يقول للوسى" أتتذكرين الوقت الأخير لى مع والدتك، لم أكن أقوى على العمل على الخروج على فعل أى شىء" . فتراهم فى هذا الجزء الحرج من آخر لقاء يجمعهما يمارسان اللعبة ذاتها وكأن كل منهما يفتقد دوره فيها، ذاك الدور الذى يعشقه ويهابه فى آن. ولأن شخصية سمير تنافى شخصية أحمد، وتقرب نوعا ما إلى شخصية مارى فى إدعائها بالتماسك، ولكن بنسبة أقل تضعها فى موضع أضعف، كان ذلك كفيلا بأن يدفع مارى لتفضيل ممارسة كذبتها فى تجاوز أحمد بعلاقتها مع سمير، عملا بنفس مبدأ جملة فيلم الشاطىء، فهى هنا فضلت أن تتعامل مع نقيض أحمد، أن تختبر حظها مع هذا الرجل المرتبك الذى يحتاجها أكثر من إحتياجها إليه، والذى يفوقها تشتتا فى مواجهة الأمور ويُلقى بعصبيته على من حوله ليُعبر ببساطة عن وجوده، فهكذا كان يتعامل مع استعلاء مارى أحيانا وتجاهلها اياه فى مشهد عراكها مع أحمد وقت إختفاء لوسى، اضافة إلى الطريقة التى تعامل بها مع فؤاد ابنه وقتما كان ينهره على اقتحام حقيبة الهدايا التى تخص أحمد، فهو يخشى وجود هذا الرجل ويعلم فى قرارة نفسه أن المقارنة فيما بينهما ليست فى صالحه أبدا، فتراه متوترا مُصّدرا غضبه لعله ينجح فى التوارى خلفه ويعبر عن ذاته بشكل أفضل.فهى علاقة من البداية محكوم عليها بالفشل لأن عوامل الجذب هذه المرة ليست حقيقة حتى، فسرعان ما سيطالها السقم وتنهار تماما دون أية رغبة من الطرفين فى إعادة الكرة من جديد . شخصية لوسى هى حجر الأساس الذى وظفه هذا السيناريو الذكى، فى ربط هذه العلاقات معا والتحكم نوعا ما فى تعديل مصائر بعضها ومكاشفة البعض الآخر على الماضى وبالتالى رؤية الحاضر على محيط أوضح، فلولا تعنت لوسى لكانت مرت زيارة أحمد عابرة بعد أن تتم إجراءات طلاقه من مارى، ومن ثم مضت علاقة مارى وسمير لتواجه فشلها فى وقت آخر بمعزل عن أسبابه الحقيقة، وبقدرة أكبر على أن يختلق كل منهم معاذير واهية لا علاقة لها بالواقع وخاصة أنهما يشتركان فى امتلاك ذات الصفة(عدم القدرة على المواجهة). إصرار لوسى على نبش الماضى وظفه السناريو جيدا فى اللعب على عدة مستويات درامية منها الكشف عن طبيعة علاقة أحمد بمارى والإقرار بأن تلك العلاقة وخاصة بالنسبة لمارى لن تكون ماضيا يسهل التخلص منه، وإنما ستظل منعكسة على حياة مارى سواء شائت ذلك أم أبت، وهو أيضا من منح الشخصيات مساحة فضفاضة لكى تُعبر عن مشكلاتها الحقيقية بدت عندها المواجهة على مستوى أكبر من الشفافية، والأهم أنه هو من دفع سمير فى المشهد الختامى الأعظم أن يرغب فى معاودة المحاولة مع زوجته الراقدة فى اختبار مدى استجابتها مع رائحة العطر الخاصة به، على الرغم من أن الطبيب أخبره أن ليس ثمّة فائدة . فهو الآن بات يعرف إلى أى مدى هى أحبته بعدما اعترفت لوسى بأنها السبب فى دفع هذه المسكينة للإنتحار بعدما أطلعتها على علاقة زوجها بوالدتها، وعلى الرغم من عدم تيقنه تماما بأن زوجته قرأت رسائل لوسى، فإذا به يكتشف بالمصادفة أثناء تقصيه بخصوص الأمر أنها كادت أن تصل إلى حد الجنون فى غيرتها عليه حتى من عاملة التنظيف التى تعمل لديه. فتراه فى مشهد تعجز الكلمات عن وصفه يتردد بعدما ذرع أكثر من نصف الرواق فى المستشفى، معاودا الغرفة ليتناول إحدى زجاجات العطر لينفث شذرات منها على عنقه، وما إن يقترب من زوجته، وقبل أن يطلب منها أن تقبض على أصابعه إن كانت تشتم العطر، ترى أنت دمعة لا يراها هو تنسكب على خدها المقابل لواجهة الكاميرا التى تتكوم فيما بعد لترصد لك أناملها المتشبثة بقبضة يده فى كادر كبير ينتهى عليه الفيلم، ويتركك متحيرا فى أن تُدين الماضى لكونه مازال واصيا على الحاضر أم تبقى مدينا له لفعلته فى جذب الإنتباه لهذه السيدة التى لا تملك أن تنطق عن نفسها. آخر كلمتين: _ اخيتا "طاهر رحيم" فى دور سمير وافق خطة الدور سواء على المستوى الشكل أو المضمون، فبمجرد ظهوره على الشاشة يسعك أن تشعر بأن ثمة منافسة محسومة بينه وبين أحمد "على مصطفى". _ شخصية فؤاد نموذج قاسى لطفل أذنب المحيطون به فى إضفاء المزيد من الألم على ماضيه بدرجة كافية، تجعلك قادرا على تخيل ما ينتظره مستقبلا. _ فى المشهد السابق لتردد سمير ومعاودته غرفة زوجته، تراه يودع زوجته بفطورفى كادر بعيد لا يظهر فيه وجهها بينما يتبدى جسدها ملقى فى لامبالاة، ولا يظهر ذلك الوجه إلا عندما يُقرر أن يعود فيبدو الجسد بأكمله فى كادر قريب وقد أشرقت الإضاءة نوعا ما وكأن فى هذه اللحظة فقط قرر هذا الكيان أن يقاوم للبقاء.