فى جزء من الثانية، ربما تلك الفمتوثانية التى اكتشفها زويل، قررت أننى لن أترك اللص يهرب بهاتفى المحمول حتى لو كلفنى الأمر حياتى أو حياته، ولم أدر بنفسى وأنا أطير مثل أميتاب باتشان فى الهواء لأهبط فوق الموتوسيكل المنطلق باللص والهاتف، وأمسك بالمسند المعدنى فى ذيل الموتوسيكل بأقصى ما أملك من قوة وأنا أطلق وابلا من الشتائم النابية للص وأمه وأم أمه، وأتخيل، مثل نور الشريف فى نهاية فيلم «سواق الأتوبيس» أن كل لصوص البلد يتجسدون فى ملامح هذا الشاب الصغير الذى باغتنى قبلها بثوان وخطف الهاتف من يدى أثناء سيرى فى شارع قصر العينى مساء السبت الماضى. قبل هذه اللحظة لم أكن أتصور أبدا أننى سأتعرض للسرقة بالإكراه فى الطريق العام، وكنت أظن نفسى محصنا ضد النشالين والبلطجية وضباط الشرطة، كنت أقول لنفسى – وأحيانا للآخرين- إن شكلى لا يغرى هؤلاء بالتعدى على، لأننى لا أبدو ضعيفا أو جبانا وفى نفس الوقت لا أبدو غنيا أو مستفزا، وكنت، عندما أقابل واحدا منهم فى أتوبيس أو شارع مظلم أو لجنة مرور، غالبا ما أنظر فى عين اللص أو الشرطى منهم، وأرسم شبه ابتسامة ساخرة على شفتى وألقى عليه التحية- أو أردها- بثقة وثبات، وهذه كانت نصيحتى لأى شخص يعرب عن خوفه من هذه النماذج أمامى، وهى نفس النصيحة التى كنت أوجهها لأصدقائى الذين يخشون الكلاب: الكلب، مثل البلطجى، يشم خوفك منه أو عنفك ضده، فيعوى نحوك ويهاجمك، ولو رآك مسالما هادئا وواثقا فقد لا يراك بالمرة. رغم هذه النصائح المضمونة إلا أن احتمال تعرضى لاعتداء من قبل بلطجى أو شرطى خطر ببالى مرات منذ أن قامت الثورة، وبالأخص بعد انتشار حوادث السرقة والنهب فى البلاد بشكل ممنهج ومخطط، أو مسموح له، طوال الشهور الماضية لدرجة أنه لا يمكن أن يدور حديث بين مجموعة من الناس إلا ويرد فيه كلام عن واحدة من تلك الجرائم المليونية اليومية التى تجتاح البلاد.. وكنت كلما أسمع حكاية منها أتعجب من سلبية الناس الذين شاهدوا السرقة أو تعرضوا لها.. هذه السلبية التى شجعت المجرمين على سرقة أغلى شىء جنيناه فى تاريخنا، وهو الثورة! لعل هذا الغضب هو الذى أعمانى عن رؤية المخاطر وأنا أطارد لص الهاتف، ولكن السبب الأقوى كان برنامجا تليفزيونيا شاهدته قبلها بأيام استضاف صحفية شابة هى لمياء ابنة المخرج الراحل فهمى عبدالحميد، روت فيه عن تجربتها مع لص قام بسرقة حقيبتها من داخل سيارتها، وفر بموتوسيكل، فما كان منها إلا أن قامت بمطاردته حتى صدمت الموتوسيكل وأسقطته من فوقه، أعجبت بشجاعتها أيما إعجاب وربما لجزء من الثانية، الفمتوثانية، خطر ببالى ما فعلته وأنا معلق من يدى فى «رفرف» الموتوسيكل وقد تحول الفيلم الذى أعيشه من «سواق الأتوبيس» إلى آخر مشاهد فيلم «الأرض» والانجليز يسحلون محمد أبوسويلم! كان الوقت يقترب من الثامنة والنصف مساء، وشارع قصر العينى لا يزال يضج بحيويته المعتادة، واللص الذى خطف الهاتف من يدى كان يسير عكس السير، ومن المؤكد أن المشهد المثير لفت انتباه الكثيرين، ولعل بعضهم سارع بحصار الموتوسيكل. بالنسبة لى لم أكن أرى شيئا سوى يدى المعلقتين فى «الرفرف»، قبل أن يفلت منى مع انقلاب الموتوسيكل على جانبه الأيسر فوق يدى وساقى.. ولمحت الشاب يجرى بجوارى داخل شارع صفية زغلول، قمت لأجد أن حزام حقيبة اللابتوب تمزق من فوق كتفى ووجدت الحقيبة ملقاة فى الخلف فسحبتها وجلست فوق الموتوسيكل المقلوب، هو أخذ الهاتف وأنا أخذت الموتوسيكل. هكذا قلت لنفسى وبعد لحظات أخرى وجدت بعض الناس حولى وأحدهم يحمل هاتفا فى ثلاثة أو أربعة أجزاء ويسألنى هل هذا هاتفى؟ هو بعينه، أخذت الجهاز وشكرته وبدأت أعيد تركيبه واختباره.. وقبل أن تنتهى هذه اللحظات وجدت يدا تحمل محفظة فى وجهى فأمسكت بها معتقدا أن محفظتى سقطت أيضا، ولكنه سحبها بسرعة وهو يشرح لى أنه يعمل أمينا فى قسم قصر النيل القريب منا، ويدعونى لسحب الموتوسيكل حتى القسم لنسلمه ونحرر محضرا بالواقعة، فى اللحظة نفسها تعرفت على وجه أحد الزملاء فى جريدة «روزاليوسف» فشعرت بالاطمئنان. طلبت من «الأمين» أن يرينى الكارنيه والبطاقة الخاصين به، انزعج جدا على عادة أهل الشرطة المصرية عندما تطلب أن ترى بطاقاتهم، ولكنه أخبرنى فيما بعد عندما وصلنا القسم أنه لا يلومنى وأن هذا حقى بل وواجبى أيضا لأن الواحد لم يعد يضمن أخاه. فى القسم تلاشت سعادتى بالانتصار على اللص، فهو فى الآخر شاب غلبان يدفع ثمن إجرامه خوفا ومطاردة وتعرضا للضرب والحبس والاحتقار، ولكن هنا، فى هذا القسم وغيره، هناك مجرمون يحترمهم الناس ويتمتعون بالثراء والسلطة ولا يجرؤ مواطن غلبان مثل اللص أو مثلى على الجرى وراء موتوسيكلاتهم أو تحرير محضر فى حق أحدهم.. حتى لو قاموا بقتل وإصابة العشرات. ملابسى كانت ممزقة وعدد من السحجات والكدمات فى رسغى وكفى وركبتى، ولكن أحدا لا يهتم، وقد قضيت ما يزيد على الساعة حتى أحرر محضرا لا تتجاوز كتابته دقائق علما بأنه لم يكن هناك غيرى تقريبا، باستثناء وزيرة سابقة رأيتها تدخل القسم وسط احترام وترحيب مبالغ فيه وعلى وجهها ابتسامة رضا بالغة من الخدمة الجيدة التى تؤدى لها. وتذكرت أننى جئت لهذا القسم من قبل مرتين الأولى منذ أكثر من عشر سنوات تعرضت سيارتى لسرقة حقيبتى وبعض المحتويات منها، وذهبت إلى نفس القسم للابلاغ عن السرقة، الأمين أراد أن يحرر محضر «فقد» المحتويات وليس محضر سرقة حتى لا يبذل جهدا، ولما أكدت له أننى تعرضت لسرقة وليس لفقدان الحقيبة قال لى إنه ينبغى أن أذكر اسم السارق الذى لا أعرفه، وعندما شكوت للضابط المنوب نظر لى ببرود وقال: لماذا تركت الحقيبة فى السيارة؟ نحن نحذر المواطنين دائما من ترك أشيائهم فى السيارة.. ساعتها أجبته ساخرا: طيب حرر ضدى محضرا لأننى أخطأت ونسيت الحقيبة فى السيارة! ثم أردفت بجدية: هل تريد أن تخبرنى أنكم لا تعلمون من الذى سرق السيارة. أنا أعلم أنكم تعلمون وأن بإمكانكم إذا أردتم أن تقبضوا على اللص. بعدها بأيام، وبعد تدخل أحد الزملاء من محررى الحوادث، عادت إلى الحقيبة المسروقة أتى بها شرطى حتى مقر عملى، وبدلا من أن يسعدنى الأمر أثار استيائى أكثر من الشرطة المصرية. المرة الثانية عندما قام سائق طائش بصدم سيارتى وتدميرها وعندما اصطحبته للقسم استغل معرفته بأحد المخبرين ليلفق محضرا أبدو فيه وكأننى الجانى، وعندما أصررت على تحويل الأمر للنيابة أعطونى رقم محضر ولم يصلنى أبدا أى استدعاء للتحقيق، وبعد شهور اكتشفت أنه حفظ إداريا دون تحويله للنيابة. الحكايات لا حصر لها عن فساد الشرطة وأدائها المتهاون فى حق البسطاء مقارنة بأدائها البارع والسريع فى حق من لهم واسطة أو نفوذ ما.. وأحد أسباب الثورة الأساسية هو تغيير وتطهير هذه الوزارة التى تحوّلت من حامية الشعب إلى عدوته الأولى، بالطبع هناك استثناءات كثيرة ولكنها تظل استثناءات مدهشة ومثيرة للتعجب. كنت متعبا وأريد العودة بسرعة لأسرتى القلقة، وهو ما دفعنى إلى انهاء الإجراءات على عجل، والهرب من التحويل إلى المستشفى لاستخراج تقرير طبى بالاصابات، وتركت القسم نادما على شىء واحد وهو أننى تركت لهم الموتوسيكل الذى لا أعلم ماذا سيفعلون به!