من يقول إن قراءة التاريخ عبث وتراجع للخلف ورغبة للغوص فى أحلام قد ماتت وأيام قد تلاشت قد لا يرى أن أحداث التاريخ هى عدة نجاحات واخفاقات قد قام بها بشر مثلنا، وأن من لم يقرأ التاريخ قد حكم على نفسه وشعبه بأن يعيد اخفاقاته وسقطاته وأن يرتدى أكاليل العار والفشل والخيانة مثل الذين ارتدوها من قبل.. وقد يرى البعض فيما نكتبه الآن بعضاً من التماثل فى الخيبة والفشل والإحباط تتكرر من جديد، جاء إلى محمد على مبعوث من لدى ملك فرنسا عام 1830 يطلب منه مساعدة فرنسا بكتيبة من الجيش المصرى لاحتلال الجزائر، وكان الترتيب هو ضرب البحرية الفرنسية للجزائر من سواحل المتوسط ودخولها برياً بواسطة الجنود المصريين.. وظن ملك فرنسا أن الصداقة التى تربطه بمحمد على سوف تجعله يوافق بلا تردد، وكان جواب محمد على أنه لو فعل ذلك لقضى على مستقبله السياسى فى المنطقة بأسرها، وكان فى ذلك الوقت يسيطر على الجزيرة العربية والشام والسودان حتى كردفان ودارفور، وقال إن الشعب المصرى وباقى الشعوب المسلمة العربية لن تغفر له مساعدته لجيش فرنسا فى احتلال الجزائر وقال له المبعوث: «يبدو أنك متعصب دينياً» فقال على الفور «أنا فى السياسة لا أدين بدين ولست مسلماً ولا مسيحياً فى هذه الأمور ولكنى لو حاربت شعباً عربياً لصالحكم لانتحرت سياسياًً»، ورفض محمد قائلاً: «لو كنت أستطيع أن أمنعكم لمنعتكم ولكنى أعرف أنكم أنتم والإنجليز سوف ترثون هذه المنطقة بأكملها بعد موت المريض الجالس فى إسلامبول»، وكان يقصد السلطان العثمانى فقد كانت الامبراطورية العثمانية فى طريقها إلى السقوط، وعندما أرسلت له ملكة إنجلترا طلباً بشراء قطعة أرض على شاطئ السويس لبناء فندق للضباط والموظفين الإنجليز الذين يهبطون فى الاسكندرية ثم يتوجهون إلى السويس للإبحار إلى مستعمرات الهند والصين، وأرادت أن يكون مركزاً للإدارة والراحة لهم.. أجاب محمد على أنه على استعداد لبناء الفندق وتأجيره لهم ولكنه لا يبيع أرضاً من أرض مصر.. وعندما سألوه قال «من سيأخذ شبراً اليوم سيطمع فى ذراع غداً» كان هذا هو فكر صانع نهضة مصر الحديثة محمد على التركى اليونانى الغريب الذى احتفلت ثورة يوليو بنهاية حكم عائلته، وبعد ذلك بسنوات وقبل بداية القرن العشرين طلب «هرتزل» مؤسس دولة اليهود من السلطان العثمانى وكان فى ضائقة مالية وقتها أن يبيع له أرض سيناء لتكون وطناً قومياً لليهود مقابل خمسة ملايين ليرة.. ورفض السلطان العثمانى قائلاًً «إنها ليست أرضى بل هى أرض المسلمين». ومع بداية العشرينيات تكونت شركة عالمية للعقارات فى أمريكا بأموال اليهود فى كل بقاع الأرض وبدأ تهجير اليهود من كل البلاد إلى أرض الميعاد ليستقروا ويأخذوا من الشركة الأموال لشراء أراضى الفلسطينيين، وكانوا يعرضون مبالغ باهظة يسال لها لعاب الفلاحين فى فلسطين، وكانت بداية الكارثة، وأقيمت المستعمرات اليهودية للعمل والزراعة وتخزين السلاح فى مستعمرات هى أقرب إلى القلاع الحربية حتى جاء وقت المكافأة بتحقيق وعد «بلفور» وزير خارجية الإنجليز الذى أصدره عام 1917.. ولو عدنا إلى اتفاقية «سايكس بيكو» التى تم فيها تقسيم المنطقة العربية التقسيم الأول نجد أن فلسطين بالتحديد لم يتم تقسيمها بل وضعت تحت الانتداب الانجليزى الفرنسى المشترك.. وبعد المساعدات الحربية القتالية التى قدمها اليهود فى الحرب العالمية الثانية للحلفاء كان المقابل بعد انتهاء الحرب أعلن بن جوريون قيام دولته اليهودية على الأرض اليهودية يوم 14 مايو عام 1948 واشتعلت الحرب فى يوم 15 مايو ودخلت الجيوش العربية السبعة وكانت خمسة منها قوات صغيرة رمزية متواضعة وكانت المهمة على عاتق الجيش المصرى والجيش الأردنى والذى كان قوياً وتحت رئاسة جلوب باشا القائد الانجليزى.. ولم يتحرك الجيش الأردنى فى اتجاه المناطق اليهودية نهائياً وظل يحارب متردداً فى المناطق العربية، حسب التقسيم، حتى طلبت اسرائيل الهدنة.. وظهر الملك عبدالله ملك الأردن وجاء إلى مصر وزار الجرحى مع الملك فاروق فى المستشفيات المصرية وأخذ يلح بقبول مد الهدنة فترة أطول من الأربعة أسابيع، لكن الملك فاروق رفض بشدة لأن إسرائيل تتلقى سلاحاً بكميات رهيبة ونحن فى مصر نشتريه من السوق السوداء بعد قرار حظر بيع السلاح للشرق الأوسط، وكان قراراً وهمياً هدفه منع السلاح عن الدول العربية فقط.. وكان الجيش المصرى قد وصل قبل الهدنة إلى «المجدل» وهى تبعد عن تل أبيب مسافة لا تزيد على الثلاثين كيلو متراً فقط.. واستؤنفت الحرب وفوراً سحب الملك عبدالله ملك الأردن جيشه من «اللد والرملة» فى اتجاه الأردن لتدخل القوات اليهودية وأسفرت هذه الخيانة عن حصار القوات المصرية فى الفالوجا، المهم: لماذا فعل الملك عبدالله ما فعل؟ كان قد تواصل سراً مع جولدا مائير وبن جوريون ووعداه بأن يكون ملكاً على القدس فى حال انسحابه وأن الضفة الغربية كلها ستكون ملكاً له وللأردن.. وصدق.. ونفذ ما وعد ولكنهما لم ينفذا ما وعدا به وتم احتلال أجزاء كثيرة من أرض فلسطين التى أقرها التقسيم.. وخرجت مصر أيامها وتحت قيادتها إقليم«غزة» واعتبر الفلسطينيون أن الملك عبدالله خائن فرط فى فلسطين من اجل زعامة وهمية صدقها وبالفعل تم اغتياله عام 1951 وهو يصلى فى المسجد الأقصى وكان بجواره حفيده الملك حسين وكان الملك فاروق يعلم أن الأسرة الهاشمية تريد تزعم العالم العربى والإسلامى بشتى الطرق لذلك تقرب من آل سعود لمواجهة رغبة الهاشميين فى ضم سوريا أيضاً فوق القدس وخسر الملك حياته وخسر العرب وخسر الفلسطينيون ومازالوا يخسرون ويفرطون إلى يومنا هذا الذى أوشك على الحدث الأخير وعندما جاء الكونت برنادوت وسيط الأممالمتحدة ليقوم بتسوية النزاع بين العرب وإسرائيل وقابل النقراشى باشا رئيس الوزراء المصرى فى 3 أغسطس عام 1948 عرض عليه أن تضم مصر الجزء الغربى من صحراء النقب وشرق الأردن وأن تأخذ الأردن الضفة مقابل وقف القتال نهائياً وحل المشكلة ورفض النقراشى باشا قائلاً: «إن هذا الحل هو عار فى عار لأن الدول العربية دخلت فلسطين لتنقذها من اليهود لا لتسرقها وتقسمها».. وبعد أيام صرح «برناردوت» تصريحاً ضد إسرائيل فقاموا على الفور باغتياله.. وبقيت غزة تحت الإدارة المصرية حتى ضاعت هى والضفة عام 1967 وشربت أرض سيناء من دماء الشباب المصرى منذ الهزيمة وحتى حرب أكتوبر الكثير والكثير، ولكن يبدو أنها لم ترتو بعد وها نحن الآن نعيش نفس المراحل.. البيع فى الأراضى وتمكين الفلسطينيين من أراضى العريش والثورات الملونة التى تنشر الخراب فى ربوع الوطن العربى بدأت فى التقسيم بالفعل وخرائط مصر فى كتب الأطفال ليس بها مثلث حلايب وشلاتين ونتوقع فى القريب اختفاء نصف سيناء من الخريطة وها هو العميل القطرى الذى يهندس العمليات مع الأمريكان واليهود والناتو ويسلم أبناء عروبته وأوطانه إلى اليهود طمعاً فى زعامة للمنطقة وعموماً هى زعامة تليق به وعندما يضعون له العرش سيجد أنه عرش بلا أمة ولا عرب ولا كيان.. وها هى أرض الميعاد الجديدة وبدلاً من فلسطين هى فى سيناء وبدلاً من اليهود هى للفلسطينيين من حماس ولهم وبهم الفرق الوحيد بين الماضى والحاضر إنه فى الماضى كان الشعب المصرى يندفع ليموت فى سبيل فلسطين بإيمان شديد، وظلت القضية فى قلب ووجدان كل مصرى حتى باعوها أصحابها وحتى ظهر من بين المصريين من هم على استعداد للموت من أجل اسرائيل، ونحن الآن ندفع كل ثروتنا من أجل شيمون بيريز وندفع السفير المصرى إلى الذهاب بأوراق اعتماده إلى القدس اعترافاً منا بأنها العاصمة الأزلية لإسرائيل، أرض سيناء الآن يرتع فيها الارهابيون الخارجون من السجون بالعفو الرئاسى ومطار القاهرة استقبل الآلاف من المجاهدين فى أفغانستان لتحرير أراضيها من كافة العناصر الفلسطينية الباقية فى غزة.. حرب تصفية قامت ضد الشرطة المصرية، والجيش المصرى صامت وإن كان يعمل فنحن لا نعلم والشعب المصرى يعانىالإحباط والعجز مع من شغلوه بالكهرباء والمحلات والدستور والسباب وصلاة الجمعة التى تكلف الدولة ملايين كل أسبوع.. هل كتب على شعب مصر أن يسفك طوال عمره الدماء الطاهرة على أراضيه ثم ينجسها الخونة ويدوسونها تحت أحذية العمالة؟ وهل سيظل هذا الكابوس جاثماً حتى يمر العمر؟