جاءت ثورة 30 يونيو، لتضخ دماء جديدة فى سياسة مصر الخارجية، وتعزيز دورها الإقليمى، وتعيد مركزة هذا الدور لاسيما علي الصعيد الإفريقي ، وذلك من خلال وضع خطة واضحة ومحددة لإعادة مصر إلي جذورها الإفريقية قوامها الرئيسي هو التركيز علي خلق مصالح مشتركة طويلة المدى تقوم علي تحقيق المنفعة المتبادلة لكل الأطراف وتعزيز أواصر التعاون بين الشعوب الإفريقية مع إيلاء إهتمام كبير بدور القطاع الخاص في هذا الشأن. وقد استندت المرحلة التي تلت 30 يونيو إلي عدد من الأولويات، من قبيل تنشيط العلاقات مع الدول الإفريقية علي المستويات كافة، والاضطلاع بدور نشط في احتواء الأزمات الإفريقية قبل أن تتفاقم، وعودة دور الدبلوماسية الوقائية، والمشاركة في حل الأزمات التي تنشب بدور فاعل وليس بدور المتفرج، وتبادل المشروعات الاستثمارية والتنموية.وقبل أن أستطرد في حديثي، أود الإشارة إلي أنني لست في معرض الدفاع عن الحكومة أو وزارة الخارجية أو الترويج لجهودها، فقد سبق لي أن هاجمت تصريحات نسبت لمسئولين تشكك في جدوى مشروع ربط نهر النيل بنهر الكونجو والذي اعتبره مشروع المستقبل الذي سينقذ مصر من أزمة مياه رهيبة. إلا أنني حريص على تقديم شهادة حق ونقل ما أكده لي مسئولين في وزارة الخارجية بأن الوزارة لا تتدخل في عملية التقييم الفني لأي مشروع، سواء مشروع ربط نهري النيل والكونجو أو غيره من المشروعات فهي ليست جهة فنية، كما أنها وزارة تحترم جهات الاختصاص. فباعتباري أحد المهتمين بالشأن الإفريقي فيمكنني ملاحظة التحرك القوي والمكثف للدولة المصرية منذ 30 يونيو لتعزيز علاقاتنا مع القارة الأفريقية في مختلف المجالات وفي القلب منها ملف الأمن المائي الذي يعد أحد أهم ملفات الأمن القومي المصري ويتطلب وضع حزمة من الحلول السياسية والدبلوماسية العاجلة ليس فقط من أجل الحفاظ على حصة مصر التاريخية من مياه النيل بل والعمل على زيادتها كما يطالب – وعن حق- وزير الخارجية القدير نبيل فهمي، بالإضافة إلي صياغة حلول مستقبلية مبتكرة تؤمن وفرة في المياه وتضمن مستقبل الأمن المائي لمصر من خلال مشروعات يقدمها ذوي الاختصاص والخبرة في هذا المجال، وهو ما اقترحته وأعمل على تنفيذه من خلال مشروع ربط نهر النيل بنهر الكونجو. فالزيارات التي قام وزير الخارجية بها إلي دول القارة الإفريقية والتي شملت نحو 15 دولة إفريقية في فترة وجيزة ضمن جولات مكوكية ربما جاءت في الوقت المناسب نظراً لأن الضرر الذي حدث للعلاقات المصرية الأفريقية على مدار عقود يحتاج لجهود متواصلة وعلاجاً جذرياً وليس مسكنات، في ظل المتغيرات الإقليمية والدولية الجارية، حيث أصبحت الفرصة متاحة لإعادة جسور الأخوة والصداقة بين مصر والدول الأفريقية بعد فترة ليست بالقصيرة جنحت فيها العلاقات إلي ما يشبه القطيعة، كما عكست تلك الزيارات تنامي الاهتمام المصري بقارتها ، حيث لم يكتف الوزير فهمي بالإطار الرسمي للزيارات بل اصطحب معه العديد من رجال الأعمال بغية إيجاد فرصة وموطئ قدم للشركات المصرية داخل الأسواق الإفريقية، فمثل هذه العلاقات هو ما يبقي ويعزز من علاقات الشعوب. كما عملت السياسة الخارجية المصرية علي إعادة هيكلة العلاقة بين مصر وإفريقيا بعيداً عن الفكر التقليدي الخاص بتقديم المعونات التقليدية، وذلك من خلال إحلال الوكالة المصرية للشراكة من أجل التنمية بديلاً عن الصندوق المصري للتعاون الفني مع إفريقيا وهى الوكالة التي سيوجه النصيب الأكبر من أنشطتها للدول الإفريقية في إطار منظومة جديدة من التعاون لاسيما في المجالات التى تتمتع مصر فيها بميزة نسبية وخبرة كبيرة، مثل مجالات الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، والخدمات الصحية، والزراعة، والطاقة. المتابعة الدقيقة لنتائج زيارات وزير الخارجية نبيل فهمي إلى الدول الافريقية تؤكد أننا على الطريق الصحيح وإن كنا نحتاج للمزيد من العمل نظراً لأن أفريقيا تضم أكثر من 50 دولة، إلا أن هناك تغيراً واضحاً طرأ علي مواقف الدول الإفريقية إزاء مصر خلال الشهور الأخيرة، بما في ذلك الدول الرئيسية مثل جنوب إفريقيا ونيجيريا لاسيما فيما يتعلق بموقفهم تجاه الأوضاع في مصر، ولعل المثال الأبرز علي النجاح الملحوظ الذي حققته الدبلوماسية المصرية في إفريقيا نجاحنا في تغيير الموقف التنزاني لصالح مصر حيث قدم وزير الخارجية التنزاني قبل أيام مذكرة لبرلمان بلاده يذكر فيها أنه سيدعو لاجتماع يضم وزراء الخارجية والمياه في دول حوض النيل في مدينة أروشا التنزانية خلال شهر يوليو القادم لبحث إمكانية تعديل الاتفاق الإطاري لحوض نهر النيل بما يراعي المصالح والشواغل المصرية والأخذ بعين الاعتبار أن مصر بلد صحراوي يسكنه 90 مليون نسمة وأن النيل يمثل فيها شرياناً للحياة. وبالطبع لا يمكن تفسير هذا التغير في الموقف الرسمي التنزاني وتبنيها للمصلحة المصرية دون أن نشير إلى الزيارة الناجحة لنبيل فهمي ومن بعده المهندس محلب إلى تنزانيا. فالتحرك المصري تجاه قضية أمنها المائي جاء ليحقق اختراقاً ملموساً في هذا الملف حيث نجحت دبلوماسيتنا المصرية من خلال اتصالات مكثفة مع كافة الأطراف الإقليمية والدولية ومؤسسات التمويل العالمية في إقناع هذه الأطراف بمشروعية الشواغل المصرية لاسيما في ضوء تقرير لجنة الخبراء، بما دفع الخارجية الإثيوبية إلي إعلان موقفها مؤخرا باستعدادها بدء التفاوض الجاد مع مصر حول مشروعية هذه الشواغل. ولا يفوتني هنا أن أشير كذلك إلي مشاركة الإتحاد الإفريقي في متابعة الانتخابات الرئاسية ببعثة كاملة مما يعني دعم إفريقي كامل لخريطة الطريق وانحياز إلي إرادة الشعب المصري وبما يؤسس لعودة مصرية قريبة لأنشطة الإتحاد الإفريقي. مع قرب أداء الرئيس المنتخب اليمين الدستورية، علينا أن نعمل بجد واجتهاد لمصلحة الوطن وبتضافر جهود مؤسسات الدولة المعنية بقضية المياه بوصفها من صميم قضايا الأمن القومي المصري وعلي رأسها وزارات الدفاع وأفرعها والخارجية والري والمخابرات العامة، ومن خلال جهد منظم ومتسق لإعلاء مصلحة الوطن وعدم التهاون في معالجة هذا الملف الخطير. وتحية تقدير لمؤسسات الدولة، وتحديداً لوزارة الخارجية، التي نجحت في أشهر معدودة في إعادة بعث الدور المصري في إفريقيا والعالم العربي وعلي المستوي الدولي في ظل تحديات هائلة، بل ونجحت في تحقيق اختراق في مواقف العديد من دول منابع نهر النيل وإقناع الدول المانحة والمنظمات الدولية بمشروعية وعدالة الشواغل والحقوق المائية المصرية.