عالج الفقهاء قضايا المساواة وحقوق الإنسان تحت عناوين مختلفة مثل المقاصد الشرعية والمصالح العامة والقيم النبيلة, وقد قرروا أن من أهم الأسس والقيم التي بنيت عليها مقاصد الشريعة العدالة والمساواة بين البشر, فالإنسان بصفته الإنسانية خليفة في الأرض وهو مخلوق مكرم, وتحقيق العدل وتطبيق المساواة بين الناس يرقي بالإنسان في التحضر والتمدن ويحقق له ما يصبو إليه من حرية وكرامة وسعادة, وكل أمر هذا شأنه فهو أمر الشارع ومراده من الخلق. بل جعلت شريعة الإسلام الحقوق الإنسانية التي تجب لكل إنسان بصفته الإنسانية ضرورات واجبة, فالمأكل والملبس والمسكن والأمن والحرية في الفكر والاعتقاد والتعبير والعلم والتعليم والمشاركة في صياغة النظام العام للمجتمع ضرورات في المجتمع يجب علي الدولة أن توفرها لمطلق رعاياها, ويجب علي الأفراد أن يطالبوا بها ويحافظوا عليها لمجرد الإنسانية; فإن الناس جميعا بمقتضي العقيدة الإسلامية التوحيدية عباد لرب واحد, فهم جميعا في مرتبة العبودية سواء أمام الله تعالي. والمساواة في الإسلام لا تعني أبدا القضاء علي الاختلاف أو التمايز بين الناس; إذ الاختلاف سنة كونية من سنن الله في خلقه, وهو حقيقة واقعة في الخلق, ولا يمكن محوها أو التغافل عنها, ولكن المساواة تعني العدالة, والعدالة تكون في عدم التفرقة بين الإنسان فيما يخرج عن فعله واختياره; ولذا يجب أن تطبق مفاهيم المساواة الإنسانية في إطار من احترام الاختلاف والتمايز بين الناس وعدم الاعتداء علي هويتهم الذاتية أو محاولة مسحها أو محوها. ولقد قرر القرآن الكريم المساواة في أصل الخلقة بين البشر جميعا فقال تعالي:(ياأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا),النساء:1], وقال سبحانه:(ياأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثي وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير),الحجرات:13]; أي خلقكم أيها الناس جميعا من أصل واحد, من آدم وحواء. والآية وإن جاءت في صيغة الخبر لكنها اشتملت علي أمر; فحواه: يا أيها الناس ذروا كل المعايير الفاسدة التي اعتبرتموها في تشريف الإنسان وتعظيمه, واحتكموا إلي المعيار السليم الذي يتحقق به النفع لجميعكم, وهو التقوي. ويلاحظ في الآية صيغة التفضيل في قوله( أكرمكم) فإن فيها بيانا لمستوي الذي تتحدث عنه الآية, فهي تحدثنا عن المستوي الأعلي من التكريم والتشريف, ويفهم من ذلك ضمنا أن لمطلق الإنسان كرامة, وأن للمسلم كرامة كبيرة, وأن للتقي الصالح كرامة أكبر. ولكن لكرامة الإنسان عموما حدا لا ينبغي أن يبخس إنسان منه شيئا, وهو حد العدالة, وهو الحد الذي تتوفر بمقتضاه للإنسان ضرورات الحياة وحاجات العيش وتحسينات الاحترام والتقدير. وفي حديث رسول الله صلي الله عليه وسلم إشارات عدة إلي المساواة بين الناس والعدل بينهم; فعنه صلي الله عليه وسلم أنه قال:إن أنسابكم هذه ليست بسباب علي أحد, وإنما أنتم ولد آدم, طف الصاع لم تملئوه, ليس لأحد فضل إلا بالدين أو عمل صالح, حسب الرجل أن يكون فاحشا بذئيا بخيلا جبانا, مسند أحمد:145/4]. وعن ابن عمر أن رسول الله صلي الله عليه وسلم خطب الناس يوم فتح مكة فقال:يا أيها الناس إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية أي: كبرها وتجبرها وتعاظمها بآبائها, فالناس رجلان, رجل بر تقي كريم علي الله, وفاجر شقي هين علي الله, والناس بنو آدم, وخلق الله آدم من تراب, رواه الترمذي:389/5]. وظلت المساواة واحترام الآخر ومعاملته بالقسط قيما أخلاقية راسخة في حياة المسلمين; فلم تقتصر المساواة في الإسلام علي مجرد المباديء المعلنة فقط; بل عاشها المسلمون في حياتهم كأمر عادي ليس في فعله عناء أو مشقة, وكانت المساجد مكانا يلتقي فيه الأبيض بجوار الأسود علي حد سواء في العبودية لله, وفي الحج تتلاقي الأجناس جميعها بثوب واحد لا تمايز فيه. وشملت العدالة في الدولة الإسلامية غير المسلمين بقدر من الرعاية الاجتماعية لوصية رسول الله صلي الله عليه وسلم بهم كما شملت المسلمين سواء بسواء. مما جعل المؤرخ تويني في دائرة المعارف التاريخية ينبهر بالمساواة التي رسخها الإسلام وقال: إنني أدعو العالم إلي الأخذ بمبدأ الإخاء والمساواة الإسلامي, فعقيدة التوحيد التي جاء بها الإسلام هي أروع الأمثلة علي فكرة توحيد العالم, وإن بقاء الإسلام أمل للعالم كله. فالحمد الله علي قيم الإسلام ونعمه التي لا تعد ولا تحصي. نقلاً عن الأهرام