لا يذكر المُصوِّر العجوز متى استغنى عن عينيه تماماً، مكتفياً بحدقة الزجاج، وبصوت "الفلاش" الأليف الذي كان يخبره مرةً بعد أخرى أن مهمةً جديدةً قد انتهت. الزبائنُ لم يلحظوا شيئاً . لم يدر بخلدهم أن عينه اليُمنى المفتوحة حدقةٌ عمياء ، بئر ظُلمةٍ يرقد فيها الخواء .. و أن العينَ اليُسرى المغلقة دائماً كي لا يهتز المشهد ، ربما ترى أفضل . المُصوِّرُ العجوز لا يذكر من أيامه سوى لحظة ولادته . لا يزال يسمع صرخةَ الحياة وهمهمات الأهل وقطرة عرق باردة سالت من جبين الأم على جسده قبل أن تتوجه في اليوم التالي إلى مقبرتها. شاخ فجأةً ، كأن الحياة لم تكن. تعوَّد أن يتأملَ الظلمةَ و يفكر : لو جرب الناسُ التحديقَ في العتمة لن يشيخوا ، لأنهم سيحتفظون بأعينهم فترةً أطول .. لن تكتظ ذاكرتهم بالضوء الذي يسيل في لحظة كطعنةِ برق ، ليُغرِق غرفَهم .. و يترك تاريخهم مثل وعاءٍ فارغ . و في قرارة نفسه أيقن أن الصباحَ لعنة من يستيقظون مبكراً .. و أن المساءَ وداعٌ ثقيلٌ غير أنه يليق بيقظة حبٍ منسي ، بأرصفةٍ تُبدِّل أماكنها .. و بأثرِ وردة . كان مديناً للظلام بكل شيء..على الأقل لأنه شاهد ماضيه في حلكته ، غائماً بلون "السيبيا" .. وغامضاً ، كزائرٍ لم يأت . حبةُ العَرَق القديمة لا تزال ترقد بين عينيه .. ندبة خافتة تؤلمه كلما لامسها كأنه وُلِد للتو . لم يكن يخشى الموت قدر ما كان يخشى الحياة .. فكلما مات أحد زبائنه كان شبحه يتسلل إلى غرفة التحميض ، يسترد صوره ، و يترك بدلاً منها ملابسه التي لن يحتاجها في الآخرة . هكذا تحول المكانُ يوماً بعد آخر إلى دولاب ملابس ضخم ، بروائح الأنفاس المخزونة ، ببقايا الشهيق و الزفير لبلدةٍ كاملةٍ تحت الأرض .. ليكتشف المُصوِّرُ العجوز بحسرة أن المكان الذي أعده ليكون مقبرته ، لم يعد يصلح سوى للحياة طارق إمام