كأنني جليسة حكّاءٍ عجوز -حكيم أحياناً- ينسج الحكايا ببراعة وبخبرة سنينه الكثيرة في الحكي، يأخذني في تفاصيله وأحلامه الأسطورية المرئية، كأنني داخل حلم كبير من أحلامه، حلم مظلم برائحة البحر، وبنكهة استثنائية شعرية، أطل على تلك التفاصيل بعين الكاميرا العتيقة. بحر.. كاميرا.. صور.. ظلمة.. أشباح.. حلم... كلها تفاصيل تحيط بنا، تبدو عادية، رصدها الروائي الشاب طارق إمام رصداً استثنائياً، حوّلها لأسطورة كبيرة ساحرة، استند عليها في صناعة مجموعته "حكاية رجل عجوز كلما حلم بمدينة مات فيها" الصادرة حديثاً عن دار نهضة مصر. تتألف المجموعة من 17 قصة، وتقع في حدود 83 صفحة، وتتراوح أحجام القصص بين الصفحة وتزيد على عشر صفحات أحياناً. حكاية "صانع الصور" يضع طارق إمام قصة "صانع الصور" كمدخل مثالي للمجموعة التي تسيطر عليها المشهدية، صانع الصور الذي "لا يذكر متى استغنى عن عينيه تماماً مكتفياً بحدقة الزجاج، وبصوت "الفلاش" الأليف الذي كان يُخبره مرة بعد أخرى أن مهمة جديدة قد انتهت"، "صانع الصور" أدار لي حدقة زجاج الكاميرا لأطل من خلالها على باقي قصص المجموعة. في بعض القصص يوجد حضور للأدب بصورة عامة مثل قصة "كفافيس" وقصة "عينا رجل أعمى" عن بورخيس، وتلك سمة من سمات كتابات طارق إمام. والبعض الآخر يحضر فيه البحر بقوة، وهو أحياناً مرتبط بالبحارة، ففي قصة "كوليرا " الطفل الذي يتطلع للبحّارة، والذي حذّرته جدته منهم قائلة: "البحّارة يحملون مرضاً غامضاً ليس مثل كل الأمراض.. فهو لا يميت ولكنه مع ذلك لا شفاء منه، فمن يجلس معهم كثيراً يعِشْ ما تبقى من عمره حياة تعسة". هناك بحر انتقل كله إلى المدينة تاركاً أعماقه ترابية قاحلة، وهناك مصوّر عجوز آخر يشعر بالغربة وسط الصورة التي عليها مدينته الساحلية. الكاتب مُولع بالمكان الذي تتشابه تفاصيله في معظم القصص، مكوّنة روابط شفافة بين القصص، والمكان مدينة ساحلية غالبًا، مكان مظلم تنطق تفاصيله بالوحدة والحزن، تتنفس جدرانه وتشيخ أحياناً. أما الشخوص فهي متوحدة مع المكان، مرتبطة به بشدة وتبدو كقطعة منه، هناك شبح تحوّل لكاتم أسرار لحبيبته التي أسكنته في بيتها في غرفة "لن تستقبل خيط ضوء واحد. لن يزعجك أحد. لن يتلصص عليك شخص"، الشبح كان يتحرك بين الجدران التي شاخت دون أن يلاحظه أحد، الشبح الذي "ترك المنزل ذات صباح، تاركاً كل الذكريات تسيل بين الجدران، وعاد إلى العتمة الوحيدة التي تعوّدتها عيناه.. حيث تكمن مقبرته". هناك خطّاط أورثه الرجل الذي تبنّاه مهنته ومخطوطاً لم يكمله، فيه تكمن حياته وموته أيضاً. آخر قصة والتي سمّيت المجموعة على اسمها "حكاية رجل عجوز كلما حلم بمدينة مات فيها" هي من أكبر قصص المجموعة، وأقربها للعوالم الروائية المليئة بالتفاصيل والحكايا، ففيها الرجل العجوز جداً "لدرجة أن ذكرياته نفسها شاخت، وماتت في العمر الذي تموت فيه أشد الذكريات قدماً"، والذي يموت في كل مدينة يحلم بها. تتسم لغة طارق إمام بالشعرية، التي أذابتني بين سطوره، ويرصد من خلالها عالمه السحري الجذاب، الذي يتكئ بقوة على الأسطورة والحكي.