لم أر أمرا شغل الرأى العام ووسائل الإعلام فى بلادى مصر خلال الفترة الأخيرة، أكثر من الحديث عن الفساد الذى تعانى منه بعض أجهزة الدولة ، والذى أشار إليه المستشار هشام جنينه رئيس الجهاز المركزى للمحاسبات فى تقرير رسمى صادر عن الجهاز. ذلك الأمر بلغ من التضخيم حدا جعل منه شغلا شاغلا لدى البعض ، فتحول إلى حديث للمجلس النيابى وأعضاؤه من ناحية ، وإلى مادة إعلامية تتداولها الميكروفونات والشاشات وأوراق الصحف ، فضلا عن اصطياد اللجان الإلكترونية التابعة لتنظيم الإخوان له ، لتجعل منه سبة فى جبين الحكومة والنظام السياسى على حد سواء ، مستندة فى ذلك إلى ماتعتبره مستندات بضبط فساد فى أجهزة الدولة. وحتى نضع الأمور فى نصابها ، ينبغى أن نتناول ذلك الأمر من نواحى مختلفة منها العلمية والقانونية والإعلامية والنيابية أيضا ، حتى يعرف الرأى العام حقيقة مايدور بهذا الشأن بعيدا عن عمليات الاصطياد فى الماء العكر. وبداية من الناحية العلمية فان التقرير الذى أصدره الجهاز أصابه حالة من التباين مابين كونه منصبا فقط على عام 2014 وما تلاه، أو على الفترة التالية لأحداث يناير من العام 2011 ، وهو التباين الذى فتح المجال أمام أنصار تنظيم الإخوان ليركزوا على الحالة الثانية تشويها للنظام الحالى ، وتجميلا للفترة التى قفزت فيها الجماعة على أكتاف وجثث الشهداء لتصل الى سدة الحكم فى بلادى مصر. ومن الناحية القانونية فان الجهاز المركزى للمحاسبات ليس جهازا تنفيذيا ، وإنما هو جهاز رقابى ، يعتمد فى عمله على نظم محاسبية وآليات تطبيق القوانين ، ومن ثم فان مايصدره ليس حكما على الأداء بقدر ماهو حكم على مدى فهم القوانين ، والخروج عن القواعد المحاسبية والإحصائية فى تطبيقها ، وهو الأمر الذى تؤكده تقارير اللجان التى تم تشكيلها من جانب مؤسسة الرئاسة أو حتى مجلس النواب ، والتى أشارت الى أخطاء فى الأرقام الصادرة عن تقرير الجهاز المركزى للمحاسبات والفترة التى شملها التقرير. أما من الناحية الإعلامية فان تناول الأمر بشكل يفتقد إلى المعرفة العلمية والقانونية جعل منه قضية رأى عام ، وبدأت وسائل الإعلام فى تناولها بشكل متباين مابين تلك التى تسير على خط الدفاع عن السلطة بشكل مباشر ، وهى التى وجهت اتهامات إلى رئيس الجهاز المستشار هشام جنينة ، بأنه من أنصار الإخوان الذين يريدون تشويه صورة الدولة والنظام على حد سواء خدمة لأهداف الجماعة وهو الطرح الذى أيده نواب بالمجلس النيابى طالب البعض منهم بمحاكمة "جنينة" ، ومابين تلك الوسائل التى تخدم تنظيم الإخوان والتى بدأت فى تناول الأمر على أنه سمة النظام الحالى ، وبلغ بها الأمر إلى حد قيام لجان التنظيم الالكترونية بتداول بيانات "مزورة" منسوبة إلى الجهاز تزعم من خلاله تجميله لفترة قفزها على السلطة وإلى شفافية ونزاهة تلك الفترة. وأخيرا ومن الناحية النيابية وهى التى تتعلق بالمجلس النيابى ، فقد سار هو الآخر فى طريق اتهام "جنينه" وطالب بعضهم بضرورة عزله وهم الأعضاء الذين يشكلون جبهة للدفاع عن النظام السياسى الحالى ، ليخرج أيضا أداء المجلس النيابى عن دوره ، من كونه للرقابة والتشريع إلى كونه مصدر للأحكام ومطالبا بتنفيذها ، وهو الخطأ الذى تداركه رئيس المجلس د.على عبد العال الذى أمر بتشكيل لجنة لدراسة تقرير الجهاز المركزى للمحاسبات ومناقشته بشكل يتفق مع الآليات البرلمانية. مما سبق يتضح أن تناول أمر الجهاز المركزى للمحاسبات ورئيسه المستشار "جنينية" مازال فى حاجة إلى أساليب علمية وقانونية وإعلامية ونيابية وأن التناول بالصورة التى ظهرت خلال الأيام القليلة الماضية ، يؤكد أن الاندفاع والعاطفة وعدم إعمال العقل ، هو الأمر السائد حتى الآن ، وهو أمر لايبنى أمما تريد لنفسها النهضة والديمقراطية. غير أن ذلك كله لايعنى – عندى – عدم وجود فساد فى الدولة أو أجهزتها وهو ماينبغى التحقق منه وملاحقته وما قدمه "جنينة" رغم ضخامة الأرقام التى حملها تقريره والتى تتحدث عن 600 مليار جنيه قيمة الفساد سواء خلال عام أو أكثر يجب التعامل معه على أنه "جرس انذار" ومطالبة عاجلة بملاحقة الفساد الذى استشرى فى أجهزة الدولة المختلفة ويمثل سببا حقيقيا لنخر جسد الأمة ، بسبب صعوبة محاربته ، وهو ماينبغى على الدولة المصرية التنبه له ، والعمل السريع والجاد والفعال للقضاء عليه. ما أراه فى تقرير "جنينة" هو قمة الشفافية من جانب الدولة وجهازها الرقابى ، فى الكشف عن الفساد وضرورة مواجهته ، وهو المبدأ الذى أقره الرئيس عبد الفتاح السيسى ويؤكد على ضرورة مكافحته وعدم سماحه بوجود الفساد أو الفاسدين، وهو مادفعه لأن يأمر بتشكيل لجنة رئاسية لبحث تقرير الجهاز المركزى للمحاسبات. ومن أسف أن الرؤية الايجابية فى التقرير بشكل عام ، حولها الجهل العلمى والقانونى والإعلامى والنيابى والاندفاع والتعصب فى الأداء ، إلى مادة خصبة لأعداء الوطن ، الذين يريدون تشويها وتضليلا كعادتهم لكل الأمور وتفسيرها بالشكل الخبيث الذى يهدف إلى خدمة أهدافهم الخبيثة التى هى من طبيعتهم. علينا جميع أن نواجه أنفسنا وأن نعترف بأن الدولة تعانى فسادا يقوده أباطرة ، استثمروا أحداث يناير 2011 لنهب الدولة وثرواتها وخيراتها بل وتاريخها باسم يلوكونه بألسنتهم يقولون عنه "ثورة" ، وهو فساد فى حاجة إلى حرب من الدولة وجميع الوطنيين لاتقل فى ضراوتها عن تلك التى تشنها بلادى ضد الإرهاب الأعمى ونجحت فيها ومازالت تحقق نجاحا ، فمحاكمة الفساد يجب أن تكون منهج عمل خلال الفترة القادمة ، وحماية المبلغ عنه أحد أهم عوامل نجاح مكافحته ، وإذا كان البعض يتهم "جنينة" بأنه كشف عن فساد فاننى أقول بملء فيّ: أخطأ الجميع وأصاب "جنينة". ===== [email protected]