لم تستغرق عملية الجيش التركي في الأراضي السورية شمالاً سوى ساعات، وبالتحديد في مدينة «جرابلس» السورية، حيث انسحبت منها عناصر تنظيم «داعش» بعد معركة سريعة لم يسقط فيها سوى قتيل واحد من جانب قوات التنظيمات المسلحة المدعومة من تركيا مثل «الجيش الحر»، ويعقب ذلك تنديد من دمشق عقب 6 ساعات من العملية العسكرية التي استهدفت تأمين نقطة ارتكاز للمسلحين في المدينة الإستراتيجية على حساب كل من القوات الكردية المختلفة -المدعوم معظمها من واشنطن- وقوات «داعش». ويأتي ذلك عقب فشل دمشق في فرض السيطرة على مدينة «الحسكة» التي يسيطر عليها الأكراد السوريين منذ 2012. اللافت للانتباه أيضاً أن ما كانت تعتبره موسكو خطاً أحمر أضحى بين ليلة وضحاها مسألة عادية تحظى بقبول ضمني من موسكو وطهران؛ فالمنطقة العازلة التي تطالب بها أنقرة منذ أواخر 2014 في شمال سوريا كانت محل اعتراض من جميع أطراف الأزمة السورية بمن فيهم واشنطن، وجاء رد فعل أنقرة على هذا الرفض بزيادة دعم المجموعات المسلحة وزيادة تدفقها لشمال سوريا لتحقيق الهدف كأمر واقع طيلة الشهور التالية التي شهدت بداية عمليات التحالف الذي تقوده الولاياتالمتحدة ضد «داعش» ، وهو ما تم تصعيبه على أنقرة بعد التدخل الروسي وحادثة إسقاط «السوخوي» الروسية من جانب المقاتلات التركية، لترسم موسكو خط أحمر على الحدود التركية السورية كان موقف أنقرة إزائه أن تتخطاه وتدخل في حرب مع روسيا في ظل انكشاف غطاء واشنطن والناتو عنها، أو تخضع له وتحجم من تحركاتها ودعمها للجماعات المسلحة التي عانت في الآونة الأخيرة من تراجع وهزائم على طول الجبهة الشمالية في سوريا. وإزاء العملية العسكرية السريعة في جرابلس اليوم، أتى الاستنكار الروسي- السوري إعلامياً، دون أي إجراء ضد التدخل التركي المباشر في الأراضي السورية وتأمينها للمسلحين الموالين لأنقرة، وهو ما يشي بأن هذه الخطوة التركية الهامة تأتي عقب تفاهم مشترك نتج عن تحولات الموقف التركي في سوريا مؤخراً، واللقاءات التي جمعت بوتين بأردوغان والتصريحات الهامة من المسئولين الأتراك عن أهمية التعاطي مع النظام السوري مستقبلاً لحل الأزمة السورية، انطلاقاً من قاعدة الاتفاق على عدم السماح بنشأة كيان كردي في شمال سوريا يهدد كل من دمشقوأنقرة وطهران، وهو ما جاء اليوم صريحاً على لسان أردوغان في كلمة متلفزة اليوم عن العملية العسكرية التركية، قال فيها " الذي قال: " تركيا ستتولى الأمر بنفسها إذا اقتضى الأمر لحماية وحدة سوريا (..) العملية العسكرية اليوم في سوريا تستهدف فقط قوات «داعش» وحزب «الاتحاد الديموقراطي»". ويمكن القول أنه في سياق التحولات التركية الأخيرة فيما يخص سوريا فإن العملية العسكرية اليوم في «جرابلس» لا تشذ عن هذا السياق بل تتسق مع بالكامل خاصة وأنها غير موجهة إلى الدولة السورية ولا حلفائها، حيث سيكون الأمر لو كان عكس هذا بمثابة إعلان حرب من جانب تركيا ضد كل من روسياوإيرانوسوريا، ولكن كون أن التمهيد التركي لهذه العملية كان موفقاً في أن يجعل موقف الأطراف الثلاثة السابقة شبه محايد، فإنه من غير المستبعد أن تكون العملية العسكرية التركية بمثابة مرحلة جديدة في مسار الأزمة السورية تتسم بالتفاهم بين معظم أطرافها، ولكن مع عدم التسليم بأن ما يحدث تحالف بالمعنى السياسي، فمن جديد لا تزال هناك ردة فعل أميركية متوقعة على إجهاض أو بالحد الأدنى تأجيل ما عزمت عليه من دعم أكراد شمال سوريا في إقامة كيان كونفيدرالي لهم، لتأتي الخطوة التركية المتوافقة مع موسكو وطهران لتحد من إجراءات واشنطن التي لن تنتظر إلا أن تعمل على حلحلة هذا التفاهم الروسي-التركي-الإيراني. على الجهة المقابلة، فإن الأولوية التكتيكية القصوى الأن من جانب إيرانوتركيا هو منع إقامة هذا الكيان الكردي المزعوم، كذا مصلحة موسكو في عدم تواجد موطئ قدم لواشنطن في شمال سوريا، أما دمشق فالمعركة شمالاً وخاصة في حلب من المفترض أنها تشكل أولوية عسكرية قصوى خاصة، وبالتالي يمكن القول أن انعكاسات هذا التفاهم حال التأكد من صحته ستنعكس على معركة حلب سريعاً في الأيام القادمة، حال إن استمرت المعادلة الميدانية كما هي دون دخول متغير عليها سواء من واشنطن أو انقلاب في الموقف التركي؛ فعلى جميع الأحوال تقف جميع الأطراف السابقة مسافة آمنة من بعضها البعض دون أي ضمانات مستقبلية، وكذا ارتباط تركيا بمواقف أكثر تعقيداً في الداخل والخارج سواء مع حلفائها في المنطقة ممثلين في قطر والسعودية، أو موقفها في أزمتها الحالية مع الولاياتالمتحدة على خلفية محاولة الانقلاب الفاشل. وكخلاصة عامة لا يمكن إغفال أن تركيا بدأت بالفعل في مخطط المنطقة العازلة، وإن اختلفت ظروف التسمية والتنسيق مع الأطراف المختلفة؛ ففي النهاية ظل جوهر الأهداف التركية من المنطقة العازلة كما هو، فعلى سبيل المثال لم يخفت طلب أنقرة بانسحاب كل العناصر المسلحة الكردية من مختلف التنظيمات وخاصة قوات «حماية الشعب الكردي» التابعة لحزب الاتحاد الديموقراطي -الكيان السياسي الحاكم لتجربة الإدارة الذاتية للأكراد «روج آفا»- إلى الضفة الغربية لنهر الفرات، وإمكانية فرض هذا بالقوة خلال الأسابيع القادمة، كذا هدف تركيا الأساسي من أن لا تحل القوات الكردية محل عناصر داعش المنسحبة من مختلف مناطق ومدن الشمال السوري، ومثالاً على ذلك ما حدث في مدينة «منبج»، التي دخلتها «قوات سوريا الديموقراطية» المدعومة من واشنطن، وهو ما عجل بسيرورة التفاهم الروسي-التركي-الإيراني، وجعل خطوة أنقرة العسكرية اليوم محل تفهمهم. ليتبقى تساؤلين حاسمين في هذا السياق إجابتهم ستتضح خلال الفترة القصيرة القادمة: الأول متعلق بموقف تركيا الجديد الذي لا يعترض على أن يحل الجيش السوري وحلفائه محل «داعش» في المدن المحررة، كونه حد أدنى من الخطر عن القوات الكردية؟ والثاني هو مدى ثبات هذه السياسة التوافقية وهل هي مجرد تكتيك لحظي فرضته وقائع ميدانية توافقت الأطراف السابقة على مجابهتها واستثمارها، أم أنه توجه عام جديد لأنقرة سيتوج بتفاهم يطل برأسه في الأفق مع دمشق؟