حبيبة حسني، سيدة تبلغ من العمر 28 عامًا، آثرت العمل مع والدها في ورشة صغيرة للمشغولات اليدوية قبل أن تنهي عامها الأخير بكلية التجارة جامعة الإسكندرية، التي تفوقت فيها وحصلت على تقدير عام جيد، لتبدأ رحلتها كصبي بأجر زهيد. عملت حبيبة بعد تخرجها مباشرة كمحاسب قانوني في أحد المكاتب الخاصة، فحصلت خلال الأشهر الثلاثة التي عملت بها على مائة جنيه فقط، ولأنه لم يكن مجديًا من الناحية العلمية أو النفسية أيضًا، فاضطرت إلى مغادرته بلا رجعة؛ بعد فقدانها أي أمل في تعلم شيء جديد، أو الحصول على فرصة عمل ملائمة، ولتميزها بالنشاط وكره التكاسل، لينتشلها والدها «حسني شديد» من شبح الاكتئاب المصاحب للجلوس في المنزل بلا عمل. في سوق يطغى عليه عنصرية الرجال، وتحديدًا بمنطقة المنشية وفي زقاق متفرع من شارع سوريا الشهير بتجارة الذهب بالإسكندرية، عرض عليها والدها أن تقف بجانبه لتسانده في عمله، ففاقت في عملها دور الابن الذي لم يرزقه الله به، لتتصدى لمناهضي عمل المرأة وتقف أمامهم ندا لتحقق أحلامها التي لم تحققها لها شهادة جامعية أو تفوق دراسي. دور حبيبة كان في البداية، تنظيف أرضيات المحل وعمل المشروبات للصنايعية والعمال، ومع الوقت بدأت في تعلم جميع المهارات التي تتطلبها الصنعة، من اللحام والمنشار ولضم النحاس، وغيرها إلى أن تخصصت في نقش الأركيت على المعادن، وهو ما وجدته الأنسب لها، فنقشت على النحاس والفضة والذهب. ارتفاع الأسعار وتدني الوضع الاقتصادي أدى بوالدها إلى نقش النحاس والفضة بجانب الذهب، خاصة مع تراجع الإقبال على الأخير، ويضاف لها المصنعية ما يزيد من سعره ليصل إلى 400 جنيه للجرام. تقدم أحد الأشخاص لخطبة حبيبة في بداية عملها قبل 4 سنوات، وكان حينها معارضًا لعمل المرأة من الأساس، لكنه مع الوقت أدرك أن عمل زوجته مع والدها في محله الخاص أفضل وأكثر أمنًا من عملها في أي مكان آخر لا يعلم أي شيء عن الشخص الذي يعمل معها ويغلق عليهما بابًا واحدًا، على حد قولها، حتى أنه أحب المهنة وعمل في المحل المجاور لها بعد تركه العمل في المجال الجمركي. وبعد الزواج، خصصت حبيبة حجرة في المنزل لعمل ورشة صغيرة لتعينها على استكمال عملها في أوقات العناية برضيعتها، أما في فترة الحمل فكانت تذهب للورشة يوميًا حتى اليوم السابق للوضع. 4 ساعات فقط خصصتها حبيبة للنوم، و10 للعمل، والباقي للاعتناء بمنزلها وأسرتها، نظرا لضغط العمل، حتى تتمكن من تسليم العمل للزبائن في الأوقات المحددة، وتعمل بنفس النظام في شهر رمضان، دون الحصول على إجازات. «يعني ايه تتعاملي مع صنايعي رجل وتروحي بعدها تشتري من بنت، مفيش حاجة اسمها البنت أحسن من الراجل».. نصائح هدامة يدلي بها العنصريون من الصنايعية المحيطين بحبيبة، في محاولة لاختطاف زبائنها، ليس هذا فقط، بل تتبعوا لفترة زمنية زبائنها فور خروجهن من ورشتها ونصحوهن بعدم التعاون معها، في مقابل توفير المنتج لهن بنصف السعر الذي تتلقاه هي، لكن مع مرور الوقت، تيقن الجميع أن إتقانها للعمل يفوق الرجال، وكونت معهن صداقات حتى أفشوا لها عن تلك المضايقات من العمال. مهنة حبيبة تتعدد فيها الأفرع؛ فتضم النقش وتركيب الفصوص ونشارة المعدن ولحامه بالنار.. تتمكن جيدا من جميع المهام، ساعد في ذلك هواية الرسم وحب العمل اليدوي، فبدأت رحلتها بعمل الكروشيه والتريكو، والرسم بالزيت والفحم، وانتهت بمهنتها الحالية، وهي النقش على المعادن، حتى لجأ إليها بعض مصممي الأزياء لتنفيذ بعض الإكسسوارات الخاصة بتصميماتهم، التي نشرت في عدد من المجلات الخاصة بالموضة والأزياء. عانت حبيبة كغيرها من الوضع الاقتصادي المنهار الذي أثر على تجارتها، فارتفاع أسعار الخامات المستخدمة في العمل مع عدم حرية رفع الأسعار، والبضائع التي تتاجر فيها، آخر اختيار للأسرة، وتعد من الرفاهيات، ما أثر على متطلبات أسرتها الأساسية. تتطلع حبيبة إلى إنشاء مصنع كبير لإنتاج كل أنواع الإكسسوارات، ويضم عددا كبيرا من الفتيات والشباب، فضلاً عن عمل برنامج تليفزيون يعلم المرأة كيفية عمل مشغولات يدوية من المنزل، خاصة أن الاهتمام الغالب الآن ينصب على تعليم الطهي، والمهتم بالإكسسوار لا يعلم الأساسيات، في ظل عدم اهتمام الدولة بالصناعات، وإحلال الصيني كبديل للمحلي. اندثر الكثير من الأعمال اليدوية اليوم؛ بسبب الاستيراد من الصين وعدم اهتمام الدولة بالحرف اليدوية مع غلاء أسعارها نتيجة طول فترة العمل فيها، كالنقش بالأقلام على النحاس والفضة، الأمر الذي يتطلب على الدولة الاهتمام بالحرف والصناعات، وتحويل الدولة من مستهلكة إلى منتجة وتحقيق اكتفاء ذاتي من جميع السلع.