حياة أخرى يعيشها سكان مقابر العيسوي بالمنصورة، في أحضان الموتي ونواح الكلاب وسموم الثعابين، ورواد الجنح الأخير من الليل بصحبة الساقطات، والمدمنين والدجالين.. اقتربت منهم «البديل» للتعرف على حياتهم. سكينة، سيدة فى الأربعين من عمرها، تجلس فى «حوش مقبرة» وبجوارها أطفالها الصغار، قالت: «زوجي توفى بعد صراع مع المرض، ولم يكن له معاش ولا مسكن ملك، وعندما لم نستطع دفع الإيجار، طردنا صاحب المنزل، وفقدت اثنين من أبنائى بعدما هربوا ولا أعرف مصيرهما حتى الآن، ولم نجد مأوى إلا المقابر التي وجدنا فيها راحتنا من غلظة قلوب البشر». وأضافت: «أسترزق من زوار المقابر عندما نقوم بتنظيف الأرض أمام القبر، وبيع الجريد – سعف النخل- وأيضا نأكل من الرحمات التى يوزعها أهل المتوفى، وعندما يأتى علينا الليل، ننام في زعر من ظلام المقابر والسكون المخيف، فلا أجد سوى حضن أطفالي أتحامى به». «أعمل مع الدفان فى تجهيز أدوات فتح وغلق المقابر؛ من تجهيز الأسمنت الذى يغلف به المدفن، وعند فتحه، أدخله وأحمل العظام لأنحيها جانبا؛ حتى يضع الدفان الجثة الجديدة».. كلمات قالها الطفل سيد، ابن العشر سنوات، الذي فقد طفولته وسط الموتى، ويعمل مساعد دفان، وأيضا يقيم مع والدته فى المقابر. وعن المواقف المخيفة التى يتعرض لها، دمعت عيناه، وقال: «تشم الكلاب المسعورة رائحة الجثث إذا كان القبر غير مغلق بإحكام أو عندما يبدأ الأسمنت الأبيض بالسقوط أو يتشقق من عوامل الجو، وتتجمع الكلاب وتستطيع أن تستخرج الجثث من القبر وتأكل فيها، ورأيت هذه المواقف مرارا وتكرارًا، وكل ما استطيع فعله، أستغيث بالدفان، الذي يلملم ما تبقى من الجثة ويعود بها إلى مكانها مرة أخرى»، مضيفا: «أرى كثيرا، الثعابين تمر بجواري وأمامي، وأحمد الله كل يوم أني وأمي وأخي الصغير مازلنا على قيد الحياة، فلو وجدنا الأمان خارج المقابر، ما لجئنا إلى هذه الحياة». وأكد محمد بدر، مُغسل، أن مقابر العيسوي تتعرض للعديد من الانتهاكات، فيتعاطى الكثير من الشباب المخدرات فى المقابر، مضيفا: «نجد يوميا عشرات السرنجات ملقاة على الأرض، بالإضافة إلى الأفعال المنافية للآداب، حيث يصطحب بعض الشباب فتيات ويجلسون منفردين داخل الأحواش الملاحقة للمدافن». وتابع: «كما يوجد بعض المشعوذين الذين يأتون للدفانين فى أوقات الهدوء، ويطلبون منهم فتح المقابر لوضع الأعمال أو أخذ حفنة تراب من داخل المدفن حتى يعالج به المصاب بالمس أو اللبس، وهناك بعض أصحاب النفوس الضعيفة يرضخون لذلك مقابل المال». وأوضح طارق رمضان، كبير الدفانين، أن مقابر العيسوي كبيرة جدا، ولها عدة مداخل، ويصعب التنقل فيها بأكملها لرصد الانتهاكات التى تحدث بها، لكنها قلت كثيرا عن الأعوام الماضية، التي كانت تسرق فيها جثث الموتى بمقابر الصدقة». وعلى الجانب الآخر، قال هاشم عبد الوهاب، رئيس حي غرب المنصورة، إنه جاري تركيب بوابات حديد على كل مداخل مقابر العيسوي وأنارتها؛ لحماية حرمة الموت، والحفاظ على المقابر من الخارجين على القانون.