تعد المحاكمات التي أعقبت اغتيال الرئيس المصري الراحل أنور السادات، البداية الحقيقية لعملية المراجعة التي نفذتها الجماعة الإسلامية، ورغم أنها لم تمتد إلى المبادئ الرئيسة لفكر الجماعة بشأن العمل المسلح، إلا أنها وللمرة الأولى أدخلت معيار الجدوى بعد أن كانت معنية أولاً وأخيراً بمعيارالمشروعية الدينية. التقت "البديل" بممدوح الشيخ، مدير المركز الدولي للدراسات والاستشارات والتوثيق، وسرد ملابسات المراجعات الفكرية للجماعة الإسلامية منذ البداية وأسبابها والقائمين عليها. دور كمال حبيب يقول "الشيخ" إن فترة السجن بالنسبة لبعض قيادات الجماعة كانت فرصة لإعادة وتمحيص المفاهيم والقناعات، ومن ثم إعادة ترتيب الأولويات على نحو جديد، وكانت البداية محاولة وضع خطوط أكثر وضوحاً بين "الثابت" و"المتحول"؛ للانطلاق منها لرؤية مغايرة تماماً، وكان في مقدمة هؤلاء القيادي البارز كمال السعيد حبيب، الذي حكم عليه بالسجن عشرة أعوام في قضية مقتل السادات. وفي السجن عكف "حبيب" على البحث والاطلاع في العلوم السياسية، وكان ضمن قليلين من قيادات الجماعات المتشددة الذين فطنوا مبكراً لأهمية المراجعة، وقبل الصدام الكبيرمع "السادات" كانت مشاغل العمل التنظيمي تمنع "حبيب" من تحصيل القدرالكافي من المعرفة المعمقة، فاستغل فرصة السجن لإنجاز جانب من المهمة، بخاصة بعد أن بدأ يقرأ بتوسع بعيداً عن الكتابات الدينية والتاريخية التقليدية التي شكلت لسنوات طويلة الرافد الرئيس لفكر هذه الجماعات، وكان لمؤلفات المفكر السياسي الراحل الدكتور حامد ربيع أثر رئيس في التغيير. وخلال فترة سجنه "1981-1991″، قام كمال حبيب بدور مزدوج، ربما انفرد به: "إعادة تشكيل ثقافته، ونشر وعي جديد بين قيادات الجماعات المتشددة"، وكانت أهدافه من ذلك كما يروي في كتابه "الحركة الإسلامية: رؤية من الداخل" الصادر عام1998 ، إكساب الحركة الإسلامية الوعي السياسي اللازم لإدارة الصراع، وتقنين تصورات الإسلام السياسي، والمساعدة على وجود برنامج شامل لرد شبهة غياب البرنامج التي كان خصوم الحركة الإسلامية يثيرونها، ولم تنفصل عملية المراجعة داخل السجن عن مجريات الأحداث خارجه، فكان لبروز شعار "الإسلام هو الحل" 1987، وتجارب الإخوان المسلمين المستقلين في دخولهم تحالفاً انتخابياً مع حزب الوفد 1984، ثم دخول الإخوان تحالفا مستمراً مع حزب العمل 1987، ودخول بعض الإسلاميين البرلمان، كل ذلك له أثره في طرح أسئلة جديدة عن الواقع السياسي. وتحاور كمال حبيب مع كثير من القادة، وفي مقال له بالعدد الأول من مجلة" مراجعات"، يقول المحامي الأصولي المعروف منتصر الزيات، نقلاً عن كمال حبيب" إن أسامة حافظ أسرَّ له أنه بخروجه ستبدأ فترة جديدة تعيد الجماعة الإسلامية فيها ترتيب أوراقها وممارسة عمل مجتمعي تتأخر فيه مرحلة القتال وتتقدم من خلال مراحل الدعوة"، ويعقب منتصر الزيات قائلاً: "لكن تطور المواجهات بين الجماعة الإسلامية والدولة حال دون ذلك"، وتشير الحقائق آنفة الذكر إلى أن المراجعة بدأت فعلياً بعد مقتل "السادات"، ومن المفارقات التي تسترعي الانتباه أن جماعة الجهاد المعروفة بأنها أكثر تشدداً من الجماعة الإسلامية كانت صاحبة المبادرة بنقد أحداث أسيوط وتقييمها تقييماً مبدئياً وواقعياً في آن واحد، كما أن أول من حاول بلورة تصور متكامل للمراجعة هو القيادي الجهادي كمال السعيد حبيب. الوساطة المجهضة كان من الطبيعي أن تستفز حالة العنف المتبادل بين الجماعات "المتشددة" والدولة أطرافاً أخرى، وبخاصة من الحركة الإسلامية، لتحاول إيقاف نزيف الدم، وقبل أن تظهر فكرة الوساطة بين الطرفين، استعان اللواء محمد عبد الحليم موسى، وزير الداخلية الأسبق بصديق له تربطه صلة طيبة بالدكتور عمر عبد الرحمن، مارس 1990، والتقيا فطلب الوزير منه أن يساعده لوقف أشكال العنف كافة، وطالب عمرعبد الرحمن وكان آنذاك قيد الإقامة الجبرية تمكين الجماعة من الدعوة بحرية ورفع الحصار عنه حتى يتمكن من القيام بمهمته، وفشل المسعى لعدم وفاء الوزير بما وعد به، وتكررت محاولة مماثلة مع القيادي عبود الزمر كانت نتيجتها مشابهة. وتلت هذه المحاولات الشخصية مبادرة للوساطة تنسب للداعية الكبير الراحل الشيخ محمد متولي الشعراوي، رحمه اللَّه، وتشكلت لجنة أطلق عليها "لجنة الحكماء" من علماء ودعاة وكتاب، وقام المحامي الأصولي، منتصر الزيات، بنقل الرسائل بين لجنة الحكماء والقيادات التي كانت في السجن، وكان الدكتور عمرعبد الرحمن، آنذاك، غادر مصر وأحيط علماً بالمفاوضات فباركها، وكما متوقع كان موقف القيادات الموجودة خارج مصر رفض المفاوضات، وبعد حوالي ثلاثة أعوام من المفاوضات، تخللها لقاءان بين لجنة الحكماء ووزير الداخلية، تم تحديد موعد لتلتقي اللجنة شخصاً مهماً في رئاسة الجمهورية، وفي اليوم نفسه أقيل وزير الداخلية رغم أن الجهود كانت أسفرت عن نتيجة لم يتوقعها أحد بأن قيادات الجماعة الإسلامية والجهاد قرروا تفويض الشيخ الشعراوي والشيخ محمد الغزالي ليتخذا ما يريانه مناسباً، وكانت كل مطالب الجماعتين "الإسلامية والإخوان": وقف المحاكمات العسكرية، والإفراج عن المعتقلين، ومنح الجماعة حرية الدعوة. من الوساطة للمبادرة كان أول خطاب علني يصدر عن الجماعات داعياً لوقف العنف، ما صدر عن الجماعة الإسلامية في مارس 1995، وتمثل في بيان ألقاه خالد إبراهيم، أمير الجماعة في أسوان، أثناء مثوله أمام المحكمة العسكرية، وقبل تتبع مسار الأحداث أو إخضاعها للتحليل من الضروري قراءة أهم ملامح المناخ الذي أعلنت فيه داخلياً وخارجياً، ففي خارج مصر، كان تنظيم الجهاد يكاد يكون منفرداً بالساحة الأفغانية في الوقت الذي وجدت فيه هذه الجماعات الأصولية ساحات للحركة بسبب التعاطف معها كما حصل في السودان في بداية التسعينات، أو بسبب وجود حالة فوضى سياسية كالبلقان والشيشان، وما بقي متاحاً كان ملاذاً للجوء لا ساحة للعمل، وشكل اختفاء القيادي أبو طلال القاسمي "طلعت فؤاد قاسم" فيكرواتيا 1995 ضربة موجعة للجماعة الإسلامية؛ لأنه كان قيادياً محنكاً وكان لوجوده في أوروبا أثر إيجابي كبير. وعندماوقع حادث الأقصر البشع في نوفمبر 1997 الذي راح ضحيته 58 قتيلاً من الأجانب، اعتبر كثيرون أنه تعبير عن انشقاق في صفوف الجماعة تجاه مبادرة" وقف العنف"، ورغم استمرار عجلة المساعي التصالحية، ظهر اتجاه رافض شكلت قيادات الخارج جسده الرئيس، وتضاربت الأنباء بشأن موقف الدكتور عمر عبد الرحمن ونسب إليه الموقف ونقيضه، والأمر نفسه ينطبق على تنظيم الجهاد الذي أطلق مبادرة لوقف العنف أطلقها في فبراير 2000 القيادي الجهادي أسامة أيوب، مقيم بألمانيا، وفي يناير 2001 صدرت مجلة "المجاهدون" الناطقة باسم الجماعة حاملة ما اعتبر أول موقف محدد تعلنه من مساعي وقف العنف، وجاء فيه أن "جماعة الجهاد ما زالت على نفس المنهج الذي بنت عليه عملها وربت عليه أبناءها"، وتضمنت الافتتاحية هجوماً عنيفاً على النظام المصري، ومازال موقف الجماعة من مبادرة وقف العنف غائماً. نضوج المبادرة توالت خطوات الجماعة الإسلامية في طريق وقف العنف، وتردد أن حواراً دار بين قياداتها وبين النظام، طالبت فيه الدولة الجماعة بأن تصدر كتاباً يتضمن مراجعة للأفكار الأساسية التي بنت عليها الجماعة موقفها من العنف، وبخاصة قضايا: شرعية قتال الدولة، وقتل المدنيين، واستهداف السياحة؛ بهدف تعميمه على كوادر الجماعة، وحتى منتصف 2001 كانت الجماعة ترفض هذا الأمر بسبب ضغوط الصف الثاني من القيادات والكوادر الأصغر سناً، واكتفت الجماعة بإصدار وثيقة تحرم قتل السائحين دون تلبية بقية مطالب الدولة. وتردد أيضاً أن هناك شروط كانت الجماعة تعتبرها ضرورية للوصول إلى اتفاق نهائي مع الدولة، تتضمن: إطلاق سراح المعتقلين، ووقف إحالة أعضاء الجماعة للمحاكم العسكرية، وكفالة حرية العمل الدعوي، واستجابت الدولة فعلياً لمطلب وقف الإحالة للقضاء العسكري منذ أربعة أعوام، ومنذ إعلان المبادرة لم تتوقف الجهود الفردية الداعمة لهذا الاتجاه، فكتب الشيخ محمد مصطفى المقرىء كتاباً مهماً عن حكم قتل المدنيين يتسم بالشمول والعمق، ويعد أول الأدبيات الفكرية لفكر المراجعة 1998، وفي مطلع العام 2000 نشر المحامي منتصر الزيات العدد الأول من مجلة فصلية فكرية حملت اسم "مراجعات" تختص بدراسة ظاهرة المراجعات الفكرية داخل صفوف الجماعات المتشددة. وفي مطلع 2002، أصدر قادة الجماعة الإسلامية مجموعة 4 كتب لها عنوان مشترك "سلسلة تصحيح المفاهيم"، أعدها اثنان من القادة التاريخيين، هما أسامة إبراهيم إبراهيم عبد الحافظ وعاصم عبد الماجد محمد، كما راجعها وأقرها من القيادات التاريخية "كرم محمد زهدي، وعلي محمد علي الشريف، وناجح إبراهيم عبد اللَّه، ومحمد عصام الدين دربالة، وفؤاد محمود الدوليبي، وحمدي عبد الرحمن عبد العظيم" وعناوين الكتب: "مبادرة وقف العنف.. رؤية واقعية ونظرة شرعية"، و"حرمة الغلو في الدين وتكفير المسلمين"، و"تسليط الأضواء على ما وقع في الجهاد من أخطاء"، و"النصح والتبيين في تصحيح مفاهيم المحتسبين".