من كان يثور ضد مبارك فإن مبارك قد عاد بعد أن برأه القضاء من كل الاتهامات. ومن كان يثور ضد الظلم والفساد والقهر والاستبداد فإنه لم يذهب حتى يعود، ولكن الانتصار على هذا أو ذاك ليس مرهونا بحجم الإخلاص وكمية التضحيات فحسب. فالإيمان يسبق العمل، والفهم يأتي قبل الإخلاص، وكل حركة لابد أن تسبقها معرفة ورؤية بما ينبغي أن يكون. أما لو استمر نزيف الدماء الطاهرة كوسيلة وحيدة لدفع الظلم فسنبقى دوما في دائرة الاستضعاف، يهدف كل منا لنشر مظلوميته، وتخوين الآخرين، سنظل ندور في هذه الحلقة المفرغة ما لم نتبن مشروعا بديلا يُجمِّعنا ولا يفرقنا، مشروعا لا يحمل أي بُعد طائفي، ولا يُقصي أحدا غير الفاسدين والقاتلين وناهبي خيرات الشعب، مشروعا لا أفضلية فيه لأحد لأنه أسبقهم جهادا أو أكثرهم تضحية، مشروعا يرفع شعار الاستقلال الوطني، والتحرر من التبعية، والمطالبة بعدالة اجتماعية وانتقالية، وآلية واضحة لتطهير المؤسسات، وقصاص للشهداء، وتعويضات للمصابين والمعتقلين، والمناداة بالحرية لكل المصريين، لا نستثني منهم أحدا مهما كانت معتقداته وأفكاره، مشروعا يعبر بلا خوف ومن دون أي مواربة أن عدو المصريين الأول هو الكيان الصهيوني وذيوله، وليس حماس والجهاد وحزب الله وغيرهم من حركات المقاومة، مشروعا واضح الملامح، لا شعارات تلوكها ألسنة النخبة بالفضائيات. لنتبنى مشروعا يقدم قيادات راشدة واعية فطنة حكيمة ( فلم تكن أبدا كما أشيع من مميزات ثورة 25 يناير عدم وجود قيادة لها، بل غيابها كان أبرز أسباب التفتت والتشرذم وعدم تحقيق أهداف الثورة). ربما تبدو هذه الكلمات الآن كالأحلام غير القابلة للتحقيق، خصوصا في هذا الوقت الذي أصبح فيه التشرذم والتخوين وإعجاب كل فصيل برأيه هو شعار المرحلة، لكن هناك أجيال نمى وعيها في ظل هذه الأحداث لن تعطي أبدا الدنية في دينها وحقوقها وبلدها؛ بعد أن عرفت معنى العزة والكرامة، وتنسمت رحيق الحرية، وسالت الدماء على أجسادها الحرة، وحملت أكتافهم أجساد مصابين وشهداء أطهار من أصدقائهم وذويهم. لن ينسوا أبدا المشاهد والأهوال التي عاشوا أوجاعها. هذه الأجيال هي من ستبني مستقبل هذا الوطن شئنا أم أبينا، وهؤلاء لا ينقصهم أبدا حمية على وطن، فقط ينقصهم أن نبين لهم معالم الطريق.. فلا يكونوا وقودا للتظاهرات والحراك الثوري فحسب، بل يكون منهم أيضا قادة ومفكرين وأكاديميين وعلماء وكتاب ومبدعين وزعماء حقيقيين. هذه هي ثورتنا، تلك أهدافها، ولو تحققت بعد مئة عام، فلا يبطِئَنَّكُم التسويف وطول الأمل، ولا يُقعِدنَّكم استعجال النصر فتتركوا العمل، ولا يحبِطنَّكُم القهر، والتَّضيِيق على الحريات، فمن رحم الألم يولد الأمل، ولم تنجح الثورات، وكل حركات المقاومة إلا في ظل الظلم والفساد أو الاحتلال الأجنبي والحروب الأهلية وقهر الأمم.