ما زلت أصر على أن الإسلاميين لم يخطئوا مطلقا عندما قرروا خوض المعركة الانتخابية على البرلمان التى أجريت فى يناير من العام الماضى، أو أنه جانبهم الصواب عندما تنافسوا مع غيرهم على موقع كرسى الرئاسة، فهذا حق سياسى وواجب شرعى كان وما زال فرضا عليهم الالتزام به، بل إن الخطأ كل الخطأ لو استجاب الإسلاميون لدعوات البعض التى طالبتهم بأن يتركوا الساحة للآخرين فيشكلون الحكومة ويتولون الرئاسة بادعاء أن ظروف البلاد سيئة للغاية، وأن المشروع الإسلامى سيمر بعقبات ضخمة فى المرحلة الأولى ربما تكون سببًا فى فشله وإسقاطه، ومن ثم فإن على الإسلاميين أن يمرروا هذه المرحلة ويتركوا لغيرهم إلى أن يتم ضبط الأمور وتحقيق الاستقرار ثم يطرحون أنفسهم على الجماهير فيكون الحكم لهذا المشروع الذى طالما سعوا لتحقيقه. والحقيقة أن هذا القول بقدر ما يعلق به الكثير من البراجماتية التى لا علاقة لها فى جوهرها بالمشروع الإسلامى ولا بالقيم الإسلامية النقية، فإنه يتضمن أيضًا معانى خبيثة وقميئة مفادها أن المشروع الإسلامى غير قادر على أن يتعاطى مع كل الظروف والأوضاع وهو قول يجافى الحقيقة، ويصدر عمن ينظر نظرة قاصرة لهذا المشروع، فالفكرة الإسلامية ليست مجرد فكرة براقة وشعارات جوفاء ملفوفة فى ورق "سلوفان" نفرح بشكلها ونعتقد بقيمتها دون أن تكون قادرة بالفعل على أن تواجه الواقع بكل ما فيه، فهذا يعنى ببساطة أنها مشروع وهمى لا يمكنه التعاطى مع مشكلات الناس وتطلعات الجماهير وتجاوز العراقيل التى يضعها الآخرون الرافضون للمشروع الإسلامى ويستهدفون تقزيمه وإفشاله وإثبات عدم جدواه ومنفعته. فعبقرية المشروع الإسلامى وأهم ما يميزه عن بقية الأفكار والنظريات هو قدرته على انتشال الناس من أسوأ الأوضاع وأحلك الظروف ليحقق لهم أفضل ما يمكن أن يكون على ظهر الأرض، فيوفر سبل الحياة الكريمة ويحفظ للإنسان كرامته وأفضليته على سائر المخلوقات بعيدًا عن لونه أو عرقه أو دينه. لكن التزام المنهج الصحيح فى المشروع الإسلامى ليس على مستوى الطرح النظرى فحسب، بل وعلى مستوى المسلك العملى أيضًا هو الضمانة الوحيدة لنجاحه وقدرته على إقناع الناس به والاحتشاد خلفه، فى حين أن محاولة الالتفاف على هذا الطرح النظرى المستمد من المرجعية الإسلامية الثابتة التى هى "القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة"، والتى كانت السبب فى استقطاب الجماهير والتفافهم حوله لهى أفدح انتكاسة للمشروع وأكبر ضربة يمكن أن توجه له، ذلك أن هذه الجماهير ستدرك وللوهلة الأولى مدى ما يحمل السلوك العملى من تناقضات بالجملة بين ما كان قد طرحه نظريًا قبل الوصول لسدة الحكم وبين ما يسلكه بعدما وصل للحكم، والذى لا يختلف كثيرًا عما كان يسلكه السابقون ما يقلل من حجم الفوارق بين الماضى والحاضر، بين الفاسدين المستبدين، وبين من رفعوا شعارات الحرية والاستقلال. إن من سنن الحياة أن الثورة الشعبية لا تندلع مطلقًا ضد الحق وضد ما يحقق تطلعات الجماهير، ومن هنا فإن المشروع الإسلامى يفترض أن يكون مشروعًا ثوريًا يأبى الظلم والباطل وينشد العدالة والحق ويسعى للبناء والتنمية والاستقلال بالقفز فوق كل ما خلفه السابقون من موروثات وعادات وتقاليد وسلوكيات بالية وتبعية ترسخ للباطل وتزين للسوء وتجعل من حسابات الدنيا والمصالح الضيقة الهدف الأسمى الذى ما بعده هدف، على الرغم من أنها بداية النهاية التى هى أقرب ما تكون. كذلك فإن إحدى ضرورات نجاح المشروع الإسلامى أن يتحلى القائمون عليه بروح المجاهدين الفدائيين الذين يدركون أن المعركة ليست معركة هينة وأن ثمة خسائر وتضحيات يجب أن تقدم بكل الرضا، وأنهم يجب أن يكونوا النموذج الأمثل للصبر والتحمل حتى يقتدى من خلفهم، فتظل الهامات مرفوعة والقلوب مؤمنة إلى أن يتحقق النصر والفوز، فالنصر صبر ساعة، إذ كثيرًا ما يكون الفاصل بين النصر والهزيمة شعرة دقيقة. أما هؤلاء الذين ظنوا أن الوصول للحكم هو امتلاك للدنيا وبداية للراحة والدعة، فهم الضاربون فى الإسلام ومشروعه، وهم واضعو بداية الانهيار الحقيقية، وهو الأبعد عن الفهم الصحيح للإسلام الذى جعل من الجهاد عزة ورفعة، ومن ثم فإن كل الذل والمهانة فى ترك المسلمين للجهاد إذ يقول الله عز وجل:{قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد فى سبيله فتربصوا حتى يأتى الله بأمره والله لا يهدى القوم الفاسقين}. فهؤلاء يجب أن يدركوا أن الجهاد بمعناه الشامل فعل مستمر أبدًا، انطلاقَا من ديمومة صراع الحق والباطل على المستوى الفردى بين النفس والشيطان، وعلى المستوى العام بين المؤمنين والكفار، أو بين المؤمنين والمنافقين، أو بين المؤمنين والمخدوعين التبع، كما أنه فعل دفاعى يحفظ للإسلام هيبته وللمسلمين حقوقهم، والتخلى عنه ولو للحظة واحدة يضعف المقاومة ويفتح الثغرات التى منها يتسلل الأعداء وتكون الضربات. كذلك فالمشروع الإسلامى ليس ملكًا لحركة دون حركة، إذ هو حلم كل الحالمين المتطلعين لأن يكون أمر الله هو الغالب وحكم الله هو الحاكم، لهذا فإن كل خلاف يتكسر على عتبته وكل صراع يفقد مشروعيته على حافة حدوده، ويصبح أمر التعاون بين القائمين عليه والرافعين لرايته فريضة على الجميع، وتصبح النصيحة واجبة من الجميع للجميع، فلا يكون للحزبية ولا للمنافع الضيقة مكان، فكل ما يظنه البعض مكاسب على حساب الفكرة هى خسائر فادحة سيعرف الجميع حجم فداحتها، لكن بعد أن تقع الفأس فى الرأس ويصيب الجميع الندم فى وقت لا ينفع فيه حينئذ ندم، إذ ستكون للآخرين السطوة ويكون لأفكار ما أنزل بها الله من سلطان الحكم والسلطة، ويعود المؤمنون يومئذ للاستضعاف بعد أن فتحت لهم أبواب التمكين فأغلقها ضعاف القلوب بأمراضهم وسدها من غرتهم الدنيا بزهوتها. أرسل مقالك للنشر هنا وتجنب ما يجرح المشاعر والمقدسات والآداب العامة [email protected]