ظل أعوامًا طويلة يعاني لوعة الغربة وآلام الفراق، بعد أن استحالت الحياة داخل موطنه، مرت أعوام وأعوام، كان ليل الغربة طويلاً وقاسيًا، وبينما كان وحيدًا في سجن الفراق بمفرده يحلم بإتيان يوم عودته، لم تفارقه ذكريات عاصرت سكون ليله، وما إن جمع من المال ما جعله يضمن لأسرته كرامة العيش، أخذ يلملم ما تبقى من عمره، في طريق العودة، كي يرى شمس يوم جديد ناضر. عاد "فارس" الذي بلغ من العمر أرذله بعد 7 سنوات من الغربة ليتمم عامه الستين لأحضان أسرته البسيطة زوجته ونجله وبنتيه الاثنتين، منيرًا منزلهم المتواضع بقرية "تلا" بالمنيا. وما إن مرت أيام قليلة أذابت حرارة اللقاء، حتى جلس "فارس" على عتبة داره، وقتها كان الجو هادئًا، ليستجدى من ذاكرة الماضى ما يحلو له من ذكريات وما يطرق ذهنه من أحزان، ولم يكد ينتهى من رسم ملامح الآتي، إلا وفوجئ بابنه الأوحد "أيوب" الذي لم يتجاوز عمره 25 عامًا يقطع عليه خلوته، ليطالبه بتوفير نفقات زواجه قبل الإقدام على أي خطوة للتأجيل، محذرًا أباه مما يحول دون زواجه. وبعد معركة كلامية بينهما أفهم الأب ابنه بانتوائه شراء قطعة أرض لإقامة منزل يقيهم احتمالات سقوط منزلهم المتهالك، إلى جانب توليه أمر توفير نفقات ابنته الكبرى المخطوبة، بعدها نزلت يد الابن لاطمة وجه أبيه، الذي استيقظ مصابًا بالشلل الكلي، بعد صدمته جراء فعلة ولده. وهو ما أكده الأب ل "البديل" وقت أن كان يرقد للعلاج، ومر بعدها ثلاثة أيام داخل مستشفي المنيا الجامعي، وجاء الطبيب يتمتم في وجه أبنائه وزوجته "أبوكم فارق الحياة"؛ لينطفئ نور بيته للأبد، وتخلد الأسرة أيامًا طويلة في البكاء والعويل. وكان آخر ما قاله الأب الباكي قبل وفاته ل "البديل" التي عايشت القصة، أنه غضبان أسف، فلم يدع لأحد فضلاً على أبنائه طيلة غيابه وحتى في أحلك الظرف، ولو عادت سنوات الضياع لما سافر وترك نجله لما بدا عليه من غلظة وقسوة وسوء تربية. الواقعة أوجدت حالة من التفكك الأسري سببها المال وغياب الأب عن منزله، وهو ما أكدته "فاطمة" ابنة المتوفي، والتي قالت "ما عدتش طايقة أشوف أخويا لأنه السبب في موت أبويا اللي ما لحقش يعيش له يومين حلوين في حياته، ومش عارف جاله قلب إزاي يقف يتقبل العزا في أبوه اللي اتسبب في موته، يعني قتل القتيل ومشى في جنازته"، وأوضحت "فاطمة" أن والدها كان حنونًا معهم لأبعد حد، وكان مرهف الحس، دموعه هي الأقرب إليه وقت حزنه أو فرحه.