فتيات صغيرات بدأ الألم في احتلال ملامح وجوههن، ملابسهن البالية أو التي توشك على ذلك، من الأقمشة الرخيصة، يتلاصقن في مساحة صغيرة ربما يقول «دفتر أحوال الإنسانية» إن هذه المساحة لا تحقق لشخص واحد «جلسة مريحة»، وجوههن منخفضة، ليس انحناء لأقدارهن، فالاستسلام حين يجري مجرى الدم لا يحتاج إلى إشارات أو إيماءات، لكن انخفاض الوجوه لمطالعة كتب يمسكن بها ليستذكرن دروسهن.. لا تظهر الصورة محتوى صفحات الكتب على وجه الدقة، لكنها تكشف فقط أن الكتب تحتوي على صور ملونة لا يسمح بعد مسافة الالتقاط بتوضيحها، المهم أنها مجموعة ألوان زاهية، عكس السواد المحيط بحياتهن.. فتلال التراب التي تبدو واضحة في مكان غير بعيد في الخلفية تبدو في وضع رمزي كأنها قابعة على ظهورهن، الجدران، أو بالأحرى بقايا الجدران تعلن أنه «لا ساتر» لهؤلاء الفتيات يعزل عورات أجسادهن عن الخارج، وإذا أردنا إنصافا، فإنه لا ساتر يعزل أيضا عورات المسئولين عن تلك الصورة الكئيبة! بعض الأجهزة المنزلية التي تحاول الاستواء والاستقرار في مكان ووضع يسمحان لها بأداء وظيفتها تلفظ أنفاسها الأخيرة، فالثلاجة متآكلة، والبوتاجاز تكاد للوهلة الأولى تحسبه حجرا أسود اللون يميل إلى أحد الجانبين، أما هذه القطع المجتمعة من الأخشاب فتقول على استحياء إنها كانت ذات يوم بعيد «دولاب»، وقطع الملابس القديمة الرثة تطل من داخل هذا «الدولاب المجازي» كأنها «تخرج لسانها» لصرخات الأمهات الثكلى التي تطلب الرحمة من هذه الحياة البائسة. وأسفل الكتب تبدو صفائح قديمة مطبقة صدئة، لا يفوق صدؤها إلا صدأ ضمائر المسئولين الذين تركوا هؤلاء البشر في خضم هذا البؤس والشقاء والتعاسة. «البديل» طالعت «الصورة» من داخل شارع «الرزاز» بالدويقة، صورة لعدد من الأهالي الذين هدمت «الدولة» منازلهم منذ يومين، بزعم احتمال سقوط صخرة جديدة فوق منازلهم، «صورة» تعد في حالة ال«زوم آوت» نقطة سوداء مشينة في جبين «إنسانيتنا»، وفي حالة ال«زوم إن» نقطة أشد سوادا في جبين «مصريتنا». صورة وإن بدت مليئة بالكثير والكثير، إلا أنها تحتاج إلى القراءة ب «الكلمات» لاستكمال حكاية مصريين اختارت لهم الحكومة الموت البطيء ذلا وانكسارا في كفن غير إنساني. ** باعونا لرجال الأعمال قال الحاج عاطف فتحي – أحد القيادات المحلية بمنطقة الدويقة، بعد هدم 15 منزلا بمساكن شارع الرزاز في "الدويقة"، (المباني الواقعة بين حارة "المأذون" وحارة "محمد ثابت")، منذ 12 أبريل الجاري، جاء أمس فريق من خبراء الجيولوجيا لبحث ضرورة هدم المنازل المتبقية التي أشاع الحي أنها معرضة لخطر انهيار صخري جديد، وأخبروه خلال حديثه معهم أن طبيعة الأرض جيدة لم تكن تستدعي الهدم وإخلاء المنازل! وأضاف «الحاج عاطف» أنه كان أحد أعضاء جلسة المفاوضات التي شكلتها المحافظة مع حي منشأة ناصر، وأنه اعترض كثيرا داخل اللجنة التي وصفها بالصورية لتهجير الأهالي، مشيرا إلى أنه كان على يقين من عودة الأهالي إلى الدويقة، لأن الوحدات السكنية الجديدة غير آدمية، فمساحة الشقة 38 مترا، والحجرات عبارة عن مربع صغير 3م× 3م لا يكفي حجرة نوم عادية، والحمام ضيق جدا لا يسع شخصا يقترب من البدانة، بالإضافة إلى صعوبة المواصلات. وتعجب من إصرار الدولة على هدم منازل وتهجير أهلها، في وقت تبقي فيه على «العشش» الموجودة على قمة صخرة الدويقة، قائلا إنه يعتقد أن الدولة تستغل وجود هذه العشش كغطاء لتهجير أهالي الدويقة من حين إلى آخر، بهدف الاستفادة من الأراضي وبيعها لرجال الأعمال. وأوضح «الحاج عاطف» أن من تم تهجيرهم وهدم منازلهم 36 أسرة، اضطروا إلى العودة مجددا إلى الدويقة وتحولوا إلى شبه مشردين في الشارع حيث يقطنون الآن مع أقاربهم وجيرانهم، وأغلبهم يعملون في مناطق العباسية والقلعة ووسط البلد والسيدة عائشة، وتكلفة الانتقال والمواصلات يوميا تزيد عن 15 جنيها، فهل تريد الدولة تحويل هؤلاء إلى عاطلين أم إلى إرهابيين؟! ** فهمت معنى «مواطن مصري» عند الحكومة لما نقلونا في «عربيات الزبالة»!! وقالت هدي علي – ربة منزل، تأكدت أن الدولة تتعامل معنا باعتبارنا «زبالة» ولسنا مواطنين، وأكبر دليل علي ذلك أن الدولة نقلتنا مع عفشنا وأولادنا يوم الهدم في عربات نقل الزبالة التابعة للحي؟ وأضافت أنهم لم يحصلوا علي أية أوراق رسمية تمثل سندًا للحيازة يضمن عدم طردهم فيما بعد من المساكن البديلة، بالإضافة إلى مطالبتهم بدفع مبالغ نقدية كمقدم للشقق، 400 جنيه لموظف الحي، وأخري يتم سدادها في شكل أقساط شهرية قيمة القسط 55 جنيها لأمد غير معلوم، ودون عقد! ** المحافظ: «هاجي أهد البيت عليك».. وأمين الشرطة: «راضوا البلطجية»!! وقال الحاج «رمضان» أحد المهجرين، إن المحافظ ورئيس الحي اصطحبوا الشرطة معهم يوم الهدم لترويعنا وإجبارنا علي النزول من بيوتنا دون الحصول على أية حقوق، وعندما صرخت في وجه المسئولين: «مش هاطلع من بيتي من غير ورق التمليك حسب الاتفاق المسبق مع المحافظ ورئيس الحي»، رد محافظ القاهرة جلال السعيد قائلا: «هاجي أهد البيت عليك». وقالت «أم عفاف» – إحدى الضحايا، إن الشقق التي نقلنا إليها بعربات الزبالة لا تصلح «عشش فراخ» ومجاورة لمقابر مدينة 6 أكتوبر على طريق الواحات. وأضافت أنه بمجرد نقلنا، فوجئنا بانقطاع الكهرباء عن المنطقة، والأكثر مرارة فوجئنا بهجوم عدد من الملثمين المسلحين علينا وطالبونا بسداد 300 جنيه للسماح بإنزال «العفش» من السيارات، و300 جنيه أخرى «عشان المفتاح يدخل في الكالون»، ولما رفضنا أطلقوا النار باتجاهنا واضطر الجميع للجري، ثم اقترب منا أمين شرطة فسألناه ماذا نفعل؟ قال: «مافيش حل غير إنكم تراضوهم عشان تعرفوا تدخلوا»! ** من «شقق» الدويقة إلى «خرابات» المقطم بينما قال فرج مختار – أحد أصحاب العقارات بالدويقة، «الحكومة ضحكت علينا، قالوا لنا إن الدويقة خطر علينا وهننقلكم المقطم في شقق تمليك، جت عربيات الزبالة ونقلتنا مع عفشنا للمقطم، رحنا لقينا خرابة، والشقق أوضة وصالة علي المحارة وأرضها طوب ورمل، ومافيش فيها لا مياه ولا كهرباء ولا صرف ولا شبابيك ولا أبواب، ده غير إننا مش عارفين دي إيجار ولَّا تمليك.. خدنا بعضنا أنا وعيالي السبعة ومراتي ورجعنا، والحمد لله ما كانوش لحقوا يهدوا البيت وهنقعد فيه مش خارجين منه إلا جثث». «زكية» لخصت رسالة كل مصري لحكومته عبر التاريخ: «مش عايزين منكم حاجة.. سيبونا في حالنا» توصلت زكية فهمي – ربة منزل وواحدة من المتضررين، بفطرتها وبالتجربة إلى جملة من الموروث التاريخي التي دائما يقولها المصري للحكومة، فقالت: «احنا مش عايزين حاجة من الدولة، احنا ناس علي قد حالنا وراضيين بعيشتنا في الدويقة، الصخرة لو وقعت علي دماغنا أرحم من النصب اللي عملوه معانا، لا يعقل أكون عايشة في شقة 3 غرف وصالة، والحكومة تنقلني في 6 أكتوبر في المنفي جنب المقابر في شقة 38متر، لا تصلح لإقامة أسرة، وبعيدة عن مدارس عيالي وشغل جوزي الصنايعي في باب الشعرية، ويهدموا بيتي، وألاقي نفسي في الشارع جنب عفشي وطوب البيت الذي كان يأوينا». وبعد… فإن «الكلمات» التي ساقها أصحاب تجربة «الدويقة – أكتوبر»، «الدويقة – المقطم» شاهد على فشل ثورتين في اقتناص حق المواطن من براثن المسئول، شاهد على أن مصر بلد فريد، بلد قوامه «الحاكم» ولا مكان فيه للشعب، فكثير منه – في رأي بعض المسئولين – يجب نفيه، ولا يستحق سوى «عربات الزبالة».