تقول الأسطورة أن العمل المخابراتي لفك الشفرات الألمانية خلال الحرب العالمية الثانية كان سببا في أن تنتهي هذه الحرب مبكرا عما كان يمكن لها بحوالي عامين. إذا كنت قد شاهدت الفيلم الأمريكي "يو 571″ فربما تعتقد أن هذا الحدث التاريخي الهام قد نتج عن تمكن بعض المارينز الأمريكان من سرقة آلة تشفير ألمانية تسمى "إنيجما" من على ظهر الغواصة التي يحمل الفيلم اسمها. واقع الأمر أن الفيلم فيما عدا اسم الغواصة وآلة التشفير هو مجرد قصة خيالية تماما، أو بمعنى صح أكذوبة أثارت غضب البرلمان البريطاني ودفعت رئيس وزراء بريطانيا حينها "توني بلير" إلى القول أن الفيلم يمثل إهانة للبحرية البريطانية! وربما يكون هذا هو أقسى نقد وجهه السيد بلير لأي شيء أمريكي علنا. أما سبب غضب البريطانيين فهو أن الحصول على آلة إنيجما كان إنجازا حققه جنود البحرية البريطانيين عندما تمكنوا من أسر غواصة ألمانية تسمى "يو 110″ في شمال المحيط الأطلنطي في مايو 1941، أي قبل أن تدخل الولاياتالمتحدةالأمريكية الحرب بعدة شهور. أما الغواصة "يو 571″ فلم يحدث أن كان لها أي علاقة بحادث مماثل وقد أغرقها زورق تابع للبحرية الأسترالية قبالة سواحل أيرلندا في يناير 1944. بغض النظر عن القصة الحقيقية للحصول على واحدة من آلات إنيجما فإن فك شفراتها كان في الحقيقة نتيجة جهد بدأه مكتب المخابرات البولندي منذ عام 1932، أي قبل الحرب نفسها بحوالي سبعة أعوام. حقق ثلاثة من الرياضيين البولنديين هذا الإنجاز من خلال عملية هندسة عكسية لطراز قديم من إنيجما. وعلى أساس عملهم طور الفرنسيون والبريطانيون نظما لفك الشفرة ظلت تعمل وتطور من أدواتها طوال فترة الحرب. ولا شك أن المعلومات التي تم الحصول عليها بهذه الطريقة كان له أثر على سير العمليات الحربية إلى الحد الذي قيل معه أن ونستون تشرشل رئيس وزراء بريطانيا أثناء الحرب قد أسر لمليكه جورج السادس بعد نهاية هذه الحرب بأنه لولا هذه المعلومات ما كان بالإمكان تحقيق النصر! القصة الحقيقية قد لا تكون بنفس قدر إثارة القصة التي يقدمها الفيلم الخيالي، ومع ذلك أعتقد أنها ستعجب الكثيرين. ولكني أطالبك بعد إبداء إعجابك بالقصة أن تعود إلى الجملة الأولى من هذا المقال، ففكرة أن الحرب العالمية الثانية حسمت نتيجة المعلومات الاستخباراتية التي حصل عليها خبراء فك الشفرات هي مجرد أسطورة تصلح لأفلام هوليود وتثير خيال محبي الروايات المثيرة كرواية "دان براون" الشهيرة "شفرة دافينشي" وغيرها من أعماله التي تدور حبكاتها دائما حول الرموز المبهمة والشفرات المخبأة بعناية في أكثر الأماكن براءة بحيث يمكن أن تكون تحت أعين الآلاف ومع ذلك لا يدرك وجودها إلا من هي موجهة إليه. من يعجبون بأعمال براون قد يصلون إلى حد تصور أن وراءها حقائق ذات صلة بالواقع والتاريخ أكثر من مجرد أسماء الأشخاص والأماكن. ولن يكون غريبا مقارنة بذلك أن يصدق أحدهم أسطورة أن إنيجما قد حسمت الحرب العالمية الثانية. ولكنك تحتاج إلى قدر كبير من السذاجة حتى تتصور أن هذا فعلا ما حدث في حرب استمرت أكثر من 5 أعوام وكانت أضخم صراع عسكري شهده تاريخ عالمنا، وشاركت فيها جيوش 30 دولة كان إجمالي جنودها أكثر من 100 مليون رجل، وراح ضحيتها بشكل مباشر عدد لا يمكن مطلقا تحديده على وجه الدقة ولكنه يقدر بين 50 و85 مليون إنسان. أما عدد ضحاياها غير المباشرين فلم يحاول أحد أن يحصيه. ويكفي أن أذكرك بأن مصر التي سقط على أرضها آلاف القتلى جراء الغارات الجوية في هذه الحرب قد دفعت أرواح أضعافهم كنتيجة غير مباشرة لها بسبب أنها أدت إلى انتشار وباء الملاريا كما أدت إلى عرقلة جهود مكافحته بين عامي 1942 و44. مثل هذه الحرب لا يمكن تخيل أنه قد حسمها فك شفرات آلة كانت أسرارها قد كشفت بالفعل قبل أن تنشب بسبعة أعوام. ولو أن لفك الشفرات هذا المفعول السحري فلا أقل من أن يمكن البولنديين، أول من فك أسرار إنيجما، من التنبؤ بعزم هتلر غزو بلادهم وهو تحديدا ما كان شرارة البداية للحرب كلها في أول أغسطس عام 1939! ولكن الحقيقة أن الشفرات والمخابرات لا تغيران التاريخ، والواقع أكثر تعقيدا مما يحلو للكثيرين أن يتصوروه. ورغم ذلك لا يحتاج المرء إلى كثير من الغباء ليسقط في شرك الافتتان بالتفسيرات البسيطة والساذجة لحركة التاريخ. فلو صدقت قصة ما قاله تشرشل لجورج السادس فإن هذا الثعلب المخضرم ربما قد داعبت الأسطورة خياله بينما ينفث دخان سيجاره الضخم الذي لم يكن يفارق أصابعه وهو يتسامر مع صاحب الجلالة تحت تأثير نشوة النصر وقليل من السكوتش. ولا شك أن فكرة نسبة النصر إلى فعل شجاع لبحارة بريطانيا العظمى الذين لطالما كانوا مصدر فخر لها، قد بدت مغرية له وربما تمنى أن ينسى الملك والتاريخ مقولته الشهيرة عندما أعلنت الولاياتالمتحدة الحرب على ألمانيا "الآن يمكنني أن أخلد للنوم "! ولو أن مصير الحرب كان متوقفا على فك الشفرات وهو ما أنجزه البريطانيون فعلا لما اهتم تشرشل إلى هذا الحد بأن يدخل الأمريكيون الحرب إلى جانب بلاده. دعنا نعود إلى وقتنا الحاضر قاطعين حوالي 70 عاما تفصلنا عن أحداث قصة إنيجما لنشهد وقائع قصة يبدو أنها في نظر البعض أكثر إثارة. مكان القصة هو مصر في بداية القرن الحادي والعشرين وأبطالها دمية (عروسة لا مؤاخذة) ومغني (لا مؤاخذة فاشل) ووقائعها تتمثل في إعلان تليفزيوني لشركة اتصالات، تظهر فيه الدمية لتوجه رسالة مشفرة إلى أعضاء جماعة إرهابية تنطوي على تفاصيل مؤامرة خطيرة كانت حتما ستؤدي إلى انهيار وتفكك وتقسيم أقدم دولة في تاريخ الإنسانية! لولا أن المغني الشاب كان أفضل حظا في فك الشفرات مما كان في عالم الغناء فأمكنه منفردا دون شهادة في الرياضيات وبلا معونة من أي أجهزة حديثة ومتطورة أن يكتشف السر الخطير لهذه المؤامرة الدنيئة من خلال تفكيك ما في حديث الدمية من رموز خفية. علينا بالطبع أن نشعر بالامتنان لهذا الشاب الشهم الذي أنقذ بلادنا من مصير مظلم، كما ينبغي أن نشكر السيد المستشار الجليل النائب العام الذي اهتم ببلاغه ضد العروسة والأيدي الخفية المحركة لها فحوله إلى نيابة أمن الدولة. ولكننا لا يجب أن ننسى أن نشكر أيضا من كانوا وراء هذه المؤامرة. نعم! فلو أن أحدهم كان يملك ذكاء طفل في العاشرة من عمره لأدرك أن إرسال رسائل مشفرة إلى عشرات أو مئات أو حتى ملايين لا يحتاج في عصرنا هذا أكثر من جهاز كمبيوتر ووصلة إنترنت وبرنامج تشفير مجاني. وفي هذه الحالة لا قدر الله فإن فك مثل هذه الشفرة كان سيتطلب عدة شهور من فريق من العلماء المتخصصين. المؤسف في الأمر أنه لن يمكننا أن نغري دان براون بكتابة رواية عن هذه القصة المثيرة، وأغلب الظن أن تيموثي ماكونيهي لن يقبل القيام بدور البطولة في فيلم عنها. فحتى إن كانت روايتك خيالية وفيلمك لا علاقة له بالواقع فلا يمكنك أن تعتمد على أن حبكتهما سيجدها مقنعة فقط الأطفال دون سن العاشرة أو من هم في مثل ذكائهم. ملحوظة: برغم أن قصة العروسة والمغني هي الموضوع الرئيسي للمقال فلم أجد أنها تستحق أن تشغل أكثر من ربعه الأخير.