كانت يداي مقيدتان وراء ظهري بكلابشات بلاستيك، مما جعلني عاجز عن سد انفي باصابعي، لاتحاشى رائحة النتانة التي تفوح من خرقة، مقطوعة من بطانية ميري، عصبوا بها عيناي. أخذت اتنفس من فمي حتى اعتدت الرائحة. صرت خائف.. اتذكر حكايات زملائي المعتقلين عن حفلات تعذيب رهيبة تبدأ بعد عصب العيون بمثل هذه الخرقة.. حسيت بيد ضخمة تقبض على ياقة قميصي، فهمت انها لواحد من المخبرين او امناء الشرطة.. لماذا ياقة القميص؟ لانها مرتبطة بالقفا، أحد مراكز الشرف المهمة في الثقافة المصرية. لاسباب كثيرة، لم احس باي اهانة، منها انني رجل بدوي، والثقافة البدوية لا تضفي اي شرف على القفا. كنت مستكيناً تماما، بينما اليد تسحبني الى اليمين مرة والى اليسار اخرى، نطلع سلالم وننزل سلالم. كنت خايف ان تزل قدمي فتنكسر رجلي.. سادخل في دوامات المرض.. في ظل الانعدام شبه الكامل للرعاية الصحية في السجون، يصير المرض عدو المسجون الاول.. الكل يحذر: دير بالك ع صحتك.. من يمرض يذوي ويموت، دون ان يحس به احد. دية الواحد بطانية ميري، يلفوا جثته فيها، ومرفق معها تقرير طبي، يصف الحالة بانها وفاة نتيجة لانخفاض حاد في الدورة الدموية، ولن يسلموا الجثة لاهل الميت، قبل ان تدفع اسرته عشرة جنيهات ونصف حق البطانية... رايت مسجونا، في سجن الغربانيات، كان عاريا تماما يقعد كل يوم تحت حنفية المطافي.. بعد ثلاثة ايام افتقدته.. ولما سالت عنه. قالوا: مات.. من الواضح ان حرارة الرجل كانت مرتفعه للغاية.. والدواء: يقعد تحت حنفية المطافي.. اوقفتني اليد التي تشدني من ياقة القميص، قال صاحبها: ما تتحركش.. وقفت شوية.. ثم حركت راسي قدام ببطء شديد.. فلامست جبهتي شيئا املسا وباردا. عرفت اني واقف ووجهي الى الحائط.. خوفي يزيد.. تلح عليَ حكايات زملائي المعتقلين، عن التعليق والكهربة ونزع الاظافر (واحد من المعتقلين كان يرى، ان المحققين لايمكن ان يكونوا بعقولهم، وانهم بالتاكيد يتعاطون شيئا ما، قبل ان يبداوا حفلات التعذيب).. حسيت بتنميل تحت اظافري.. وبدايات رعشة تجتاج جسمي.. قلت لنفسي: تماسك لا تخليهم يحسوا انك خايف.. سخيفة محاولة التماسك وقديمة.. هناك فارق بين الخوف والجبن، الخوف شعور طبيعي، وهو سلوك يجعل الواحد يفكر كيف يتحاشى الخطر، اما الجبن فيربك صاحبه ويشل عقله تماما عن التفكير، مما يجعل قوى المقاومة لديه تنهار، فيستسلم تماما للخطر. الطبيعي ان تكون خائف في مثل هذه الحالة، غير الطبيغي هو ان لا تخاف.. بعض المساجين يتعاطون نوع من العقاقير، مثل الترامادول، تخدر مسببات الالم.. ولكن هذا في السجون وليس في مقرات امن الدولة.. من جديد امسكت بي يد.. شدتني هذه المرة من ذراعي وليس من ياقة القميص. لا اعرف هل هي نفس اليد ام يد غيرها.. سحبتني الى مكان شديد التكييف.. (اي خدمة ياباشا؟؟).. قال صوت من الواضح انه صوت صاحب اليد التي تشدني.. (لأ.. روح أنت!!) رد ثاني بصوت خارج من طرف انفه.. فهمت اني في مكتب، واقف امام واحد او اكثر، من فصيلة تظن في نفسها اهمية..- لو طلعناك ايه اللي يضمن انك مش هترجع للحاجات اللي كنت بتعملها؟. سألني الرجل، الذي صرت اسميه الرجَال اللي بيطلع الكلام من مناخيره.. (ضايقتني البطرياركية في لهجته، لو كنت حرا لقلت له، بصفتك ايه تدخلني وتطلعني، وكيف تسمح لنفسك ان تحط حالك حكما على الناس، تصنف افعالهم، هذا صحيح وهذا خطأ، من يحاسبهم هو القضاء وليس أنت.. بلعت رغبتي، حسيت اني لو قلت هذا الكلام، ساكون مثل واحد يزرع القصب في ارض شديدة الملوحة).. دي فترة انتهت ياباشا !!..رديت باللهجة القاهرية، التي انطقها بدرجة نصف معقولة، وانا اسال الله ان لا يسالني عن الفترة التي ستبدأ.. لاني (ربما) كنت ساقول له، حين قمت بالافعال التي رجت كرسيك، كنت عاديا، ولم يكن قدامي غير الاشتراك مع اهلي في الاعتصامات والمسيرات والمؤتمرات التي نظموها، واعطتني مصداقية محلية. ولما اقدمت، انت او من هو فوق راسك، على اعتقالي، صارت عندي مصداقية انسانية.. ان خليتني في السجن، ستكون معي قلوب ملايين الشرفاء حول العالم، الذين تصلني منهم الاف الرسائل كل شهر. وان طلعتني، سأستلم الشارع، والمصداقيتين في جيبي، ومن ثم سوف تكون افعالي اكثر تركيبا وفاعلية و(ربما) اقل ضجيجا. (يريدون ان يعرفوا مين بيصرف عليك؟..) علق، زميلي في الاعتقال، يحيى ابو نصيرة حين حكيت له هذه الحكاية.. نسيتُ ان اقص عليك ان الرجل سالني: مين بيصرف عليك؟. رديت: دار ميريت للنشر (محمد هاشم) ومكتبة بدرخان (ايهاب عبد الحميد) .. ورغم ان هذا الكلام صحيح.. الا ان هناك اخرين كانوا كرماء معي.. الا اني لم اذكر اسماءهم. (خوفا عليهم طبعا. )