عندما ارتفعت الرايات السوداء فوق أقسام الشرطة فى العريش، كان ذلك إعلانًا صارخًا بأن سيناء فى خطر، وأن الدولة هناك لم يعد لها وجود فعلى على الأرض، وأن الإرهاب يعلن عن نفسه بديلاً للدولة فى هذا الجزء العزيز من أرض الوطن. ورغم صرخات التحذير من الخطر الداهم، لم يتحرّك أحد، حتى جاءت الصدمة مع مذبحة جنودنا على الحدود فى شهر رمضان، لتكون تأكيدًا أن الوضع قد وصل إلى حد الكارثة، وأن سيناء قد أصبحت ساحة مفتوحة لعصابات الإرهاب، ومخزنًا لأحدث الأسلحة، ومعسكرًا للتدريب العسكرى خارج القانون، وأرضًا مستباحة للإرهاب والمخابرات والتآمر من كل أعداء مصر. يومها ذهب الأخ الرئيس مرسى إلى سيناء مع قادة الجيش، ووقف أمام الكاميرات يؤكّد أن القصاص سيتم فورًا، وأن القبض على مَن كانوا وراء المذبحة لن يتأخّر، وأن استعادة السيطرة على الأوضاع فى سيناء أمر لا يمكن التهاون فيه. لكن الانتظار لم يطل حتى اكتشفنا جميعًا أن الأمور تسير فى طريق مخالف.. فحملة الجيش على أوكار الإرهاب تعثّرت أو جرى تقييدها بقرارات سياسية (!!) والبديل كان الوساطة مع الإرهاب من جانب الرئاسة أو الجماعات المرتبطة بها (!!) وبعد أن كان التوافق كامللاً على ضرورة تعديل المعاهدة مع الكيان الصهيونى أو على الأقل الملاحق الأمنية لهذه المعاهدة، ليتمكّن الجيش من تعزيز قواته، فاجأتنا الرئاسة بالتأكيد أنه ليست هناك حاجة إلى أى تعديلات، وأن كل شىء سيبقى على حاله الذى ورثناه من النظام السابق، مع زيادة التطمينات للكيان الصهيونى الذى تحوّل إلى «الصديق الوفى» كما جاء فى رسالة مرسى إلى شيمون بريز، والذى أصبح الأخ عصام العريان «بطلاً قوميًّا» هناك بعد دعوته لعودة الصهاينة من أصل مصرى وتبرّعه بإعادة ممتلكاتهم المزعومة!! والنتيجة.. أننا بعد عشرة أشهر من مذبحة جنودنا فى رفح، يُقال لنا إن مَن قاموا بالمذبحة ما زالوا مجهولين!! وبينما تتفاقم الأوضاع فى سيناء ويتواصل غياب الدولة.. تأتى الصدمة الجديدة مع اختطاف جنود الشرطة والجيش، وهى العملية التى أعلن تنظيم «التوحيد والجهاد» مسؤوليته عنها. ومرة أخرى، يختفى الحسم وتستمر الدولة فى طريق التنازلات، وتنشر وكالة الأناضول المقربة من الرئاسة والإخوان، نقلاً عن مصادر فى رئاسة الجمهورية، أن الرئاسة قد فتحت قناة للتفاوض مع الخاطفين عبر قيادات الإخوان فى سيناء!! ولا عزاء لنا فى الدولة ومؤسساتها، ولا دهشة حين تبادر تنظيمات جهادية أصبحت تتحدّث علنًا فى قلب القاهرة بالتأكيد أنها وحدها القادرة على حل الأزمة والإفراج عن الجنود المختطفين، وأن الجهاديين فى سيناء لن يتفاهموا إلا مع الجهاديين الذين رفعوا أعلام القاعدة أمام قصر الرئاسة وحاصروا جهاز الأمن الوطنى وأرسلوا التهديدات العلنية لجيش مصر!! سيناء خارج السيطرة.. هذا أحد أهم «الإنجازات» التى يحققها الحكم!! وربما يكتمل «الإنجاز» إذا تم تمرير مشروع محور قناة السويس بصورته الحالية التى تحوّل المنطقة إلى إقليم، وتضع الإقليم خارج ولاية الدولة وقوانينها!! سيناء خارج السيطرة، وقناة السويس فى خطر.. لكن الأخطر أن الرايات السوداء التى ارتفعت فى سيناء لتعلن سيطرة الإرهاب، ترتفع اليوم فى قلب القاهرة، وأن الحكم يضع يده فى يد أصحاب هذه الرايات، ويتصوّر أن وجودها يدعم وجوده ويخدم مخططاته (!!) وأنه فى ظل أصحاب الرايات السوداء يستطيع أن يظهر كطرف معقول.. وفى نفس الوقت يستطيع إطلاقها فى وجه القوى المدنية والديمقراطية لتنشر الخوف والفزع، وتهدّد بإغراق البلاد فى بحور الدماء!! هل يمكن الاستمرار فى هذه اللعبة القذرة أكثر من ذلك؟! هل يمكن المقامرة بمستقبل الوطن من أجل البقاء فى الحكم؟! هل يمكن ترك الإرهاب يسرح فى طول البلاد وعرضها، يدعو علنًا للعنف، ويقيم معسكرات التدريب، ويكدّس السلاح والمتفجرات.. بينما الحكم مشغول بمطاردة شباب الثوار، وباختراق القضاء وحصار الإعلام، وباتخاذ كل الإجراءات لضمان تزوير الانتخابات؟! إنقاذ سيناء لن يتم إلا بإنقاذ مصر كلها من هذا الحكم الفاشى، إنهم يريدون أن يضعوا المصريين أمام الخيار المستحيل، بين إرهاب متشدد تمثّله «القاعدة» والجماعات المرتبطة بها.. وبين «إرهاب معتدل» يمثّله مَن اختطفوا الثورة وقتلوا الأحلام، ومَن يبيعون مصر بكل ما فيها، لكى يبقوا فى الحكم!! لكن مصر تعرف طريقها. تدرك أكذوبة أن يكون هناك إرهاب معتدل. تحارب الإرهاب مهما تخفّى وتسقط الفاشية مهما تحايلت. مصر تعود إلى الميادين لتجدّد الثورة وتصحّح المسار. مصر تعرف أنها ستستعيد سيناء حين يتم إنقاذ الوطن كله من حكم الفاشية والإرهاب!!