صورة احتفل الزمن الثقافي المصري، أمس، برواية "فتاة هايدلبرج الأمريكية"، ومؤلفها الدكتور أحمد جمال الدين، في أمسية مبهجة وسط حشد من الأسماء اللامعة في الحياة الثقافية المصرية والشخصيات العامة. حضر الاحتفال الأديب والناقد أبو المعاطي أبو النجا، والروائي صاحب الملحمة الروائية "السراسوة"، جنبًا إلى جنب مع الدكتور عمرو عزت سلامة وزير التعليم العالي الأسبق، ومحسن النعماني وزير التنمية المحلية الأسبق، والدكتور حسين العطفي وزير الموارد المائية الأسبق، والكاتب والمفكر الدكتور مصطفى الفقي، والكاتب والمحامي أحمد عبد الحفيظ. وتوالت الكلمات أثناء الاحتفالية التي أقيمت ببرج "نهضة مصر"، في منطقة المهندسين، قال مؤلف الرواية إنه ليس بمقدوره أن يجيب على سؤال :"لماذا كتب روايته"، وكشف عن أن دافعًا أو نداء مجهولًا كان وراء هذا العمل الإبداعي، الذي كتب فصوله الثلاثة الأولى قبل ثورة يناير، وكان يتعجل الخروج من منصبه الوزاري بعد الثورة لاستكمال روايته. والرواية اسئلتها تتجدد مع تفجيرات بوسطن الأخيرة، في برهان على أصالة الإبداع وأهمية العمل، بينما أوضح موسى أنه عمد لاختيار أسم "أسامة" كبطل لروايته، ليقدم "أسامة المضاد لأسامة بن لادن"، أو أسامة الذي يتبنى القيم المصرية والعربية والإسلامية والإنسانية في رحابة، ودون انغلاق أو تعصب ودموية. وعلى الوقع الحزين للتفجيرات الأخيرة في بوسطن بالولايات المتحدةالأمريكية وتداعياتها، التي تعيد للأذهان ماحدث للعرب والمسلمين بعد هجمات 11 سبتمبر 2001، والتي كانت محورًا رئيسًا لرواية "فتاة هايدلبرج الأمريكية"، تحفر الرواية مكانتها الإبداعية ويكتسب النص المزيد من الأهمية بقدر ما يطرح المزيد من الأسئلة ويثير الكثير من التأملات. ولعل تجدد النظرة الغربية المستريبة في كل ما هو مسلم، مع اتهام شابين شقيقين من الشيشان في تفجيرات بوسطن، تحيل بتلقائية لهموم تناولها المؤلف بعين المبدع وروحه، ونقد الخطاب لتيار غربي متطرف، يخترع الآخر المسلم والشرقي والعربي. تطرق الحفل لنقد هذا النوع من الخطاب الغربي المتطرف، الذي يخترع الآخر، ليميز ذاته عن ذلك الذي يضعه ظلمًا في أدنى سلم الحضارة. ولأن المؤلف ينتمي لطراز المثقف الرسالي، فهو لم يقع في فخ التعصب المضاد أو الكراهية، كرد فعل على كراهية الآخر، وإنما مضى بروح المبدع ورحابة الإبداع، يقرأ منظور الغرب عن ذاته وللآخر، وأطياف هذا المنظور وتحولاته ورؤية الذات الغربية من خلال الرؤية، التي يخترعها البعض في الغرب للشرق اللاعقلاني وغير المتحضر. فالمؤلف كما تكشف روايته الأولى بجلاء يؤيد التفاعل الحر والبريء، بين البشر من كل الألوان والديانات والأصول والأعراق، وتلاقح الثقافات لصالح الإنسانية كلها بدلا من التباغض وصراعات الحضارات المدمرة بفيروس الكراهية للهويات ذاتها، والتي تلحق أضرارًا بالبشر أجمعين غالبين ومغلوبين. وبين نفحات احتفالية الزمن الثقافي المصري، بتوقيع رواية "فتاة هايدلبرج" تتبدى حقيقة المشروع الثقافي للمؤلف والذي يعيد إحياء الدور الرسالي للمثقف المصري، في سياقات العولمة والثورة الرقمية وإعادة رسم الخرائط النفسية للبشر قبل الأرض والعالم، بحواجز عالية من الكراهية والتعصب. مشروع يقوم على الابتكار بروح الفنان والرغبة الإنسانية العميقة لخدمة شعبه وقضاياه، دون التمترس خلف ايديولوجيات جامدة أو تحيزات مسبقة تتعارض، مع روح العلم ونزاهة فقيه القانون، وديمقراطية الخيارات الحرة، التي تليق بالبشر الأحرار والأمم الحرة. وبقدر ما كانت هذه الرواية الجديدة مفاجآة سعيدة فى الحياة الثقافية المصرية، لأن الدكتور احمد جمال الدين موسى، لم يعرف من قبل كقاص أو روائى وإنما ذاع صيته كمفكر وأكاديمى وصاحب طروحات عميقة فى الاقتصاد والسياسة والثقافة بعيدا عن السرد الروائى وعالم الحكى والحكائين، فإن المؤلف أكد في احتفالية الليلة الماضية أنه يعكف على رواية جديدة، موضحا أنه انتهى من نصفها تقريبًا. وإلتقى الكثير من الحضور في كلمات أثناء الاحتفالية، على فكرة الترحيب المشوب بالدهشة حيال تفجر الابداع الروائي للدكتور احمد جمال الدين، فيما لفت الروائي والناقد أحمد ابو المعاطي أبو النجا لأهمية الاسئلة التي تطرحها رواية "فتاة هايدلبرج". كما نوه الدكتور مصطفى الفقي بالتكامل المثير للاعجاب في شخصية احمد جمال الدين موسى. فهي شخصية توميء للتأثير المزدوج أو المتعدد الأبعاد للمثقف في مجتمعه ووطنه وعلى مستوى الإنسانية عبر الفكر والابداع معا، وهكذا فإن الحياة الأكاديمية التي عاشها الدكتور أحمد جمال الدين لم تتحول لأسوار عالية تحجب القراءة الابداعية للانسان والوجود أو تسجن الفكر في قاعات بحث باردة وإنما جاءت في سياق ثقافي أشمل يعلي من أهمية الفن تماما كما يعلي من أهمية الفكر والبحث. وفي هذا السياق الثقافي الإنساني الرحب يمكن فهم الدكتور أحمد جمال الدين ومشروعه القادر على الكتابة في القانون كما هو قادر على الكتابة الابداعية في عالم الرواية، فيما تصب الروافد وتلتقي عبر طرائق التفكير ودروب الابداع عند الانسان المعاصر ورحلته بين المسير والمصير ومصائر البشر المعقدة والحافلة بالمفارقات. فمؤلف رواية "فتاة هايدلبرج" ليس مجرد استاذ قانون على علو قامته في هذا المجال الهام لأي مجتمع، وإنما هو مثقف رسالي وصاحب رسالة في مجتمعه المصري كما في هذا العالم الذي لايجوز أن تتحول أصوله وأعراقه وانتماءاته الجغرافية لجدران وحروب بين البشر. ويحمل هذا العمل الإبداعى بعضا من صفات صاحبه رغم أن بطل الرواية دارس للفيزياء لا القانون ، وكبطل الرواية "أسامة زايد" فإن الدكتور احمد جمال الدين لاينتمى لأى تنظيم أو حزب أو تيار سياسى فهو لم يكن يوما من "الإخوان المسلمين" أو الناصريين أو الماركسيين أو انتمى للحزب الوطنى البائد..كما أنه لم يكن أبدا فى موقعه الوزاري على هوى سدنة النظام السابق ولم يستمر طويلا فى أول منصب وزارى حمل فيه حقيبة التربية والتعليم. الرواية التى تبدأ برحلة على طائرة لنيويورك لتنثال الذكريات مكونة جسد الحكى تحلق أحيانا فى سماء الرومانسية لكنها تضطر للنزول لخشونة الواقع وعبر صفحاتها ال 158 يتصاعد الخط الدرامى مع الحدث الجلل يوم 11 سبتمبر 2001 ويعلو منسوب التشويق ويتسارع الايقاع. وواقع الحال أن الأدب المصرى والعربى على وجه العموم بحاجة بالفعل لعمل مثل "فتاة هايدلبيرج" لأن الأعمال الأبداعية التى تناولت هجمات 11 سبتمبر وتداعياتها مازالت دون المستوى المأمول كما وكيفا مع أن هذا الحدث الجلل كانت له الكثير من النتائج الفاعلة فى واقع الحياة المصرية والعربية. ورواية الدكتور احمد جمال الدين موسى توضح طرفا من ذلك عندما تكشف عن ويلات تعرض لها مصريون وعرب ومسلمون فى ألمانيا جراء زلزال 11 سبتمبر 2001 وتداعياته وتوظيف هذا الزلزال الكوني لأغراض لاعلاقة لها بالهجمات على مركز التجارة العالمى فى نيويورك أو مقر وزارة الدفاع فى واشنطن. ها هى "فتاة هايدلبرج الأمريكية" تظهر بقلم مبدع مصري ورجل قانون ومثقف وطني فى لحظة متوترة مرتبكة فى الحياة الثقافية المصرية وغيوم تحجب الرؤية الصافية للمستقبل وضبابية تلف الوطن وعنف ممجوج مع مشهد عالمي لايقل ضبابية وعنفا. وتكشف الرواية عن مدى عشق كاتبها لمصر وحبه للمصريين بقدر احترامه للانسان فى أى مكان وزمان طالما أنه "انسان ولم يفقد جوهره الإنسانى" وعلى لسان بطلة الرواية ماجى ويليامز، يقول المؤلف: "من فى العالم لا تعجبه مصر؟. إن من يفعل ذلك بالتأكيد شخص غير سوى بلا عقل أو إحساس". في أمسية احتفلت بالكلمة المبدعة كانت مصر حاضرة في القلب والعقل وهاهي رواية "فتاة هايدلبرج" تحرك الساكن في الحياة الثقافية المصرية لتتجلى روعة الوطن العاشق بالفطرة والتاريخ والذائقة لكل إبداع أصيل.