"الجهاد في فلسطين هدفي من المطاردة، ولن أخرج أبدًا حتى النصر أو الشهادة، وإنني مستعد لإعداد عبوة ناسفة أفجر فيها نفسي في جمع من الصهاينة ولا أفكر في مغادرة غزة التي أعشقها". كانت هذه العبارة الأشهر للشهيد الراحل كمال كحيل والمعروف ب "أبو محمد" والملقب بجزار اليهود والعملاء ومهندس الاستشهاديين.. فلم يكن كحيل ينظر إلى الجهاد كخيار يمكن أن يتوقف أو يتعطل مهما كانت الأسباب؛ لذلك ما أعجزه الانفراد وعدم الاتصال بسبب الاعتقالات، وما أحجمته قلة الإمكانيات، بل انطلق بهمة عالية ونفس كريمة معطاءة يبيع مصاغ أهله ويشتري معدات عسكرية. العلم الأوحد: ولد كمال كحيل عام 1961 في حي الرمال بغزة، وبعد أن أنهى دراسته الإعدادية، عمل في مهنة سمكرة السيارات، ثم تزوج وأنجب ثمانية أبناء، حتى إذا انطلقت الانتفاضة، التحق كمال بمجموعات حماس الشبابية المنتشرة في كل مكان تسطر خطوطها على الجدران وتشعل الإطارات، وتنفذ فاعليات الحركة على أرض الواقع. وفي المواجهات اليومية مع قوات الاحتلال كان كحيل "العلم الأوحد" يقارع اليهود بكل مكان لا يهدأ له بال ولا يقر له قرار، تراه والرصاص يلاحقه في كل مكان، تعتقد أنه استشهد أو أصيب، وبعد ذلك تجد المعطف الذي يرتديه مثقوبًا غير أنه بخير. كان كحيل دائم الجاهزية مستعدًّا للانطلاق في كل لحظة، وكان يختار دائمًا أخطر المناطق؛ كي ينفذ عملياته فيها. أكثر ما يكره كحيل العملاء: ومع انطلاق كتائب الشهيد عز الدين القسام، شارك كحيل في بعض العمليات العسكرية ضد الجيش والمستوطنين. كان أكثر ما يكره كحيل العملاء، وكم حاول استفزازهم والتحرش بهم، وفي إحدى التحقيقات اعترف عميل لكمال قائلاً "ربنا يحبك كثيرًا؛ فكلما حددت المخابرات موعدًا لاعتقالك، كنت تعمل مشكلة مع عميل، فيتم تأجيل أمر الاعتقال؛ حتى لا تعتقد أن العميل سبب الاعتقال". باع مصاغ زوجته لدعم الكفاح المسلح: وذات يوم طاردته القوات الخاصة الصهيونية، وأمسكت به وأوسعته ضربًا، وسبب له ذلك فتقًا في المعدة وكدمات، وفي أثناء مكوثه في المستشفى نفذت حملة اعتقالات تبين بعدها أن كمال مسئول أحداث المنطقة، وحضرت إلى منزله قوات كبيرة من جيش الاحتلال، وتركوا له أمرًا بتسليم نفسه، حيث إنه كان في المستشفى، واستطاع أثناء ذلك الحصول على تقرير طبي بحالته الصحية حاول من خلال ذلك تفادي الاعتقال، وبعد ذلك بدأ كمال يتصرف كمطارد، واستمر على هذه الحالة عامًا ونصف العام. في تلك الأثناء عانى أبو محمد من انقطاع كبير في الاتصال مع كتائب القسام، ورغم ذلك لم يتراجع، بل ازداد نضالاً وعطاء، واستطاع تشكيل مجموعة خاصة، ووفر لها بعض الأسلحة البيضاء ومسدسًا اشتراه بعد أن باع مصاغ زوجته. خبير العبوات الناسفة: شارك كحيل في أكثر من خمس عمليات، من بينها إطلاق نار على جيب للشرطة الصهيونية في غزة، وبعد كل عملية يزداد ضغط جيش العدو على آل كحيل؛ لاعتقال كمال، وفي كل مرة يحطمون أثاث المنزل ويعيثون فيه فسادًا. وقد وصفته الصحف الصهيونية أكثر من مرة بأنه المطلوب رقم واحد في قطاع غزة. وعن عملياته الاستشهادية نسبت له هجومًا قتل فيه مرون سوفل في أغسطس 1994 في منطقة كوسوفيم في قطاع غزة والمشاركة في هجوم على قوات العدو عند مفترق نتساريم في نوفمبر 1994 وقتل فيه الجندي نيل إدوين، كما نسبت له المخابرات الصهيونية أنه شارك في قتل ما لا يقل عن 20 متهمًا بالتعاون مع السلطات الصهيونية، كما وصفته الصحافة بأنه مطلوب خطير للغاية اعتاد على التنقل وهو يلف حزامًا ناسفًا حول خاصرته. رفيق المجاهدين: كان أبو محمد رفيقا للمجاهدين، فقد عاش مع العديد من المجاهدين والشهداء القساميين أبرزهم الشهيد القائد عوض سلمي "أبو مجاهد"، حيث نفذ برفقته العديد من العمليات العسكرية أبرزها عملية برج المراقبة في السرايا والتي أسفرت عن مقتل جنديين صهيونيين، والقائد الشهيد إبراهيم النفار، والشهيد طارق دخان، والشهيد ياسر الحسنات، والقائد الكبير محمد الضيف، والمجاهد نضال دبابش، والشهيد حاتم حسان، والشهيد سعيد الدعس، وغيرهم الكثير. النموذج الأروع للتضحية: كان يعيش حياة المطاردين بكل حذر وقوة وتسري روحه الوثابة بين إخوانه بكل عزم ومضاء، فنشأت مجموعة مقاتلة خاصة تابعة لكتائب الشهيد عز الدين القسام كانت ترى في كمال النموذج الأروع للتضحية والفداء، فالتفت حوله تتعلم من خبراته وتتعاون معه، وفي هذا الوقت لم تتوقف محاولات المخابرات الصهيونية عن القضاء على كمال كحيل، خاصة في ظل تواتر المعلومات من أكثر من شخص وقعوا في قبضة الصهاينة حول وقوف كمال ومسئوليته عن عدد من العمليات العسكرية. يوم الشهادة: وفى يوم الأحد 2-4-1995، وبينما كان كمال والشهداء حاتم وعلى وسعيد ونضال يعدون العدة لعمل جهادي جديد، خاصة بعد اعتقال سائق شاحنة مليئة بالمتفجرات كانت تنطلق لتنفيذ عمل عسكري نوعي، كان كل شيء يمضي هادئًا حين هز أركان الشيخ رضوان انفجار هائل استهدف بشكل مباشر اغتيال كمال كحيل وإخوانه المجاهدين، وتناثرت الأشلاء على مسافة تزيد على ثلاثة مائة متر، وانتشرت الدماء في كل مكان. وارتقى أبو محمد صهوة المجد، ودلف من بوابة الشهادة والاصطفاء التي يقدرها الله لأوليائه الصالحين.. ارتقى بعد أن غدا علمًا من أعلام الجهاد والمقاومة وشجرة وارفة الظلال يلتجئ إليها المجاهدون، فيجدون في ظلها سلوى الغربة وحرارة الثأر، فلم يكن أبو محمد يقنع بأقل من الرد المباشر، وها هو أبو محمد يتصاعد ويحلق في سماء الوطن المسجى في اغتراب وألم، وها هي غزة التي عشقها تحترق وحيدة بين الحزن و الأسلاك الشائكة تحاول بصبر عبور اليأس. اغتيال كحيل إنجاز كبير لرئيس الشين بيت: قدمت قوات الأمن في السلطة الفلسطينية، ولملمت قطع اللحم المتناثرة، وتم نقل الجرحى إلى المستشفى، وبعد إجراء التحقيقات تم دفن أشلاء الجثث وبتاريخ 3/5/1995 ذكرت صحيفة يديعوت أحرنوت الصهيونية أن وحدات الشين بيت نجحت في تصفية المطلوب الأول في قطاع غزة، وقالت صحيفة دافار العبرية الصادرة بتاريخ 4/4/1995 أن اغتيال كمال كحيل كان مدبرًا وكمينًا معدًّا بشكل مسبق، وأضافت أن اغتيال كحيل يعد إنجازًا أوليًّا كبيرًا لرئيس الشين بيت الجديد. وفي تظاهرة احتجاجية حاشدة ضمت عشرات الآلاف من أبناء قطاع غزة وداعًا للشهداء كمال وحاتم وبلال الدعس في جنازة رمزية حملت خلالها الحشود نعوشًا فارغة، واستمر موكب الوداع المهيب من وسط غزة حتى مقبرة الشهداء الشرقية، وفى عصر يوم الأربعاء 5/4/1995 احتشد عشرات الآلاف وأمام منزل الشهيد كمال في حفل تأبيني للشهيد وإخوانه، وانطلقت زخات الرصاص من أبناء كتائب القسام تحية للشهيد. خالد الخطيب يأخذ بالثأر لكحيل: وفي ظهر يوم الأحد 9/4/1995، وبعد أسبوع واحد فقط من الانفجار والأشلاء والدماء، تمت عملية استشهادية نفذها الشهيد خالد الخطيب من مخيم النصيرات، وهو أحد أبناء حركة الجهاد الإسلامي بالقرب من مغتصبة كفار داروم قرب دير البلح، انفجرت سيارة خالد جانب رتل عسكري أسفرت عن مقتل سبعة وإصابة حوالي أربعين، وأصدرت القوى الإسلامية المجاهدة بيانًا أعلنت مسئوليتها عن العمل الاستشهادي، وأهدته إلى روح شهداء مجزرة الشيخ رضوان شهداء كتائب القسام كمال كحيل ورفاقه، وبعد ساعة فقط كان عماد أبو أمونة عضو كتائب القسام من مخيم الشاطئ وفي مغتصبة نتساريم ينفجر في قافلة دوريات عسكرية وأسفرت عن مقتل جندي و إصابة عشرة آخرين، وقد أعلنت كتائب القسام مسئوليتها عن العملية ردًّا على استشهاد كمال ورفاقه وردًّا على تدخل المخابرات الصهيونية في شئون القطاع الداخلية، بينما كانت أهازيج الثأر لكمال و إخوانه تتردد بقوة.