سعر الذهب في مصر اليوم الاثنين 30-9-2024 مع بداية التعاملات    حصيلة الغارات الإسرائيلية على لبنان خلال 24 ساعة.. استشهاد 109 وإصابة 364    «القاهرة الإخبارية»: أنباء تتردد عن اغتيال أحد قادة الجماعة الإسلامية بلبنان    لبنان: استشهاد 53 شخصا وإصابة العشرات في أحدث الهجمات الإسرائيلية    الحوثيون في اليمن: لن تثنينا الغارات الإسرائيلية عن مساندة الشعب الفلسطيني واللبناني    رسميا.. حزب الله يؤكد اغتيال القيادي في صفوفه علي كركي    «لو كنتب موجود مكنش هياخد هداف الدوري».. سيف الجزيري يتحدى وسام أبوعلى    بعد الهزيمة أمام الزمالك.. 4 أسماء مرشحة لمنصب مدير الكرة ب النادي الأهلي    حالة الطقس ودرجات الحرارة المتوقعة اليوم الاثنين 30-9-2024    شراكة استراتيجية مع «الصحة العالمية» لتعزيز نظام الرقابة على الأدوية في مصر    نقيب الفلاحين: الطماطم ب 50جنيها.. واللي يشتريها ب "أكثر من كدا غلطان"    10"بعد إصابته في الركبة".. 10 صور تاريخيه محمد هاني مع النادي الأهلي    ملف يلا كورة.. إصابة هاني.. تصريحات لبيب.. وتألق مرموش    محمد أسامة: جوميز من أفضل المدربين الذين مروا على الزمالك.. والونش سيعود قريبًا    التعليم تزف بشرى سارة ل "معلمي الحصة"    إصابه 4 أشخاص إثر اصطدام دراجتين ناريتين في المنوفية    العثور على جثة حارس مهشم الرأس في أرض زراعية بالبحيرة    أحلام هاني فرحات بين القاهرة ولندن    10 تغييرات في نمط الحياة لتجعل قلبك أقوى    5 علامات للتعرف على نقص الفيتامينات والمعادن في الجسم    مستقبل وطن البحيرة يطلق مبادرة للقضاء على قوائم الانتظار    صناع السياسة في الصين يتعهدون بدراسة تدابير اقتصادية تدريجية    الصين تتجه لخفض أسعار الرهن العقاري لإنعاش سوق الإسكان    من خلال برنامج القائد| 300 ألف يورو لاستكمال المركز الثقافي بالقسطنطينية    أجواء حماسية طلابية في الأنشطة المتنوعة باليوم الثاني لمهرجان استقبال الطلاب - (صور)    دونجا يوجه رسالة نارية ل إمام عاشور: «خليك جامد احنا مش ممثلين» (فيديو)    طبيب الزمالك يكشف آخر تطورات علاج أحمد حمدي    سعر استمارة الرقم القومي يصل ل 800 جنيه.. إجراءات جديدة لاستخراج البطاقة في دقائق    انطلاق أولى ندوات صالون المركز الثقافي القبطي الأرثوذكسي    هل 200 جنيه للفرد شهريا «مبلغ عادل» للدعم النقدي؟.. أستاذ اقتصاد يجيب (فيديو)    المقاومة العراقية تحذر من إستخدام العراق منطلقا لعمليات التحالف الدولي ضد سوريا    مفاجآت سارة ل3 أبراج خلال الأسبوع المقبل.. هل أنت منهم؟    المفتي: الإلحاد نشأ من أفهام مغلوطة نتيجة خوض العقل في غير ميدانه    «الإفتاء» توضح حكم تناول مأكولات أو مشروبات بعد الوضوء.. هل يبطلها؟ (فيديو)    بايدن: سنواصل الوقوف إلى جانب أوكرانيا    السعودية تعرب عن قلقها البالغ إزاء الأوضاع الأمنية في لبنان    صالون التنسيقية يفتح نقاشا موسعا حول ملف التحول إلى الدعم النقدي    مكون في مطبخك يقوي المناعة ضد البرد.. واظبي عليه في الشتاء    جامعة المنيا تقرر عزل عضو هيئة تدريس لإخلاله بالواجبات الوظيفية    مقتل 3 أشخاص من عائلة واحدة في مشاجرة على ري أرض بأسيوط    الأنبا باسيليوس يترأس قداس المناولة الاحتفالية بكاتدرائية يسوع الملك    السفيرة الأمريكية لدى مصر تشارك في فعاليات برنامج "هى الفنون" بالقاهرة    محافظ جنوب سيناء: 15% زيادة متوقعة بحجم الإقبال السياحي في أكتوبر ونوفمبر المقبلين    د.حماد عبدالله يكتب: فى سبيلنا للتنمية المستدامة فى مصر !!    زوج أمام محكمة الأسرة: «كوافير مراتي سبب خراب البيت» (تفاصيل)    نسرين طافش أنيقة وفيفي عبده بملابس شعبية.. 10 لقطات لنجوم الفن خلال 24 ساعة    حدث بالفن| اعتذار شيرين لشقيقها وموعد عزاء زوجة فنان وانطلاق مهرجان الجونة السينمائي    تامر عبدالمنعم بعد رئاسة "الفنون الشعبية": طالما لدي شباك تذاكر فالمسرح يهدف للربح    نابولي يفوز على مونزا 0/2 ويتصدر الدوري الإيطالي مؤقتا    "الحماية المدنية" تسيطر على حريق هائل في سيارة تريلا محملة بالتبن بإسنا جنوب الأقصر    جثة أسفل عقار مواجهة لسوبر ماركت شهير بالهرم    سقوط غامض لفتاة يثير لغزًا في أكتوبر    الفرح بقى جنازة، مصرع شاب وإصابة آخر في حادث تصادم جنوب الأقصر    عميد معهد القلب يكشف تفاصيل إنقاذ حياة شاب بعملية الأولى من نوعها    هل يجوز أن أترك عملي لأتابع مباراة أحبها؟.. رد صادم من أمين الفتوى لعشاق كرة القدم (فيديو)    إبراهيم رضا: الزوج الذي لا يعول أولاده خان علاقته بالله.. فيديو    مفاجأة حول المتسبب في واقعة سحر مؤمن زكريا.. عالم أزهري يوضح    الموت يفجع الشيخ أحمد عمر هاشم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الرأسمالية، إقتصاد المافيا والدعارة والموت
نشر في البديل يوم 26 - 03 - 2013


(1)
في الحديث عن الإقتصاد لا يمكن عزل العوامل الأخرى: الإجتماع والسياسة والمنظومة القيمية للبشرية، ماذا تعني السياسة بالنسبة للإقتصاد؟ وماذا يعني الإقتصاد بالنسبة للنمط الإجتماعي الذي تعيشه الناس وتتشكل علاقاتهم بتأثيراته؟ كثيراً ما حاولت الرأسمالية تكريس وعي الفصل بين هذه العناصر الأساسية، حاولت الهروب من شبح كارل ماركس الذي فرد فصولاَ طويلة من حياته في البحث عن تفاصيل هذه العلاقة، كيف يمكن للإقتصاد أن يبني قيماً وكيف له أن يهدمها؟ كيف له أن يبني ثقافة جماعية وكيف له أن يؤجج الفردانية.
أصدرت الدار العربية للعلوم ناشرون ترجمة لكتاب الباحثة لوريتا نابوليوني “الإقتصاد العالمي الخفي"، ويتحدث هذا العمل عن مختلف أشكال الإقتصاديات المشبوهة التي تضخمت مع إنهيار المعسكر الإشتراكي في العالم، وتناولت مجموعة من الأرقام المتعلقة بتجارة الجنس والرقيق والمخدرات وتبييض الأموال والمقاولات العقارية، وسلطت الضوء على مجموعة من الأحداث التاريخية بعد الإنهيار وربطتها بسيطرة المافيا على الإقتصاد العالمي.
هنا لا مكان لتمجيد تجربة لذاتها، فالتجربة الإشتراكية في العالم والمتمثلة في الإتحاد السوفياتي ليست تجربة خالية من الأخطاء، ولكن وجودها أعاق كثيراً تطور الرأسمالية في المنحى الذي نراه اليوم، إقتصاد الفوضى والحلول الفردية، إقتصاد المافيا والجريمة، وهنا لا بد لنا من إستخلاص فكرة أساسية مفادها أن الرأسمالية لا يمكن أن تشذب، ولا يمكن مهما حاولنا أن تصبح ناعمة وإنسانية، في الإقتصاد ليس لدينا خيار ثالث فإما الإشتراكية وإما الهمجية. والبنية الإقتصادية تبني القيم، ففي الوقت الذي تبني فيه الرأسمالية الفردانية والمافيا والجريمة والدعارة وتبييض الأموال، تبني الإشتراكية وعي الإحساس بالمجموعة وتلاشي أوهام الحل الفردي وضبط الإستهلاك دون تدني منسوب السعادة. لا يمكن الهروب من عنصر الإقتصاد في الحديث عن القيم الإنسانية كيف تبنى وكيف تعاش.
(2)
الرأسمالية: إقتصاد الدعارة
“عندما يتحول الجنس إلى سلعة تصبح السوق محراب المثاليات الإنسانية" روجر سكروتون
بعد عام 1990م، بدأت قوافل رقيق الجنس السلافية القادمة من التكتل السوفياتي السابق في إجتياح الأسواق الغربية، ليس غريباً ذاك الأمر، فالنساء اللواتي عملن في مصانع النسيج بنسب عالية في الشمال الشرقي لموسكو ومناطق أخرى كثيرة في جغرافيا المنظومة الإشتراكية وجدن أنفسهن بلا مآوى، بلا قدرة على إعالة أبنائهن، فقدمت لهم المنظومة الرأسمالية الجديدة الحل، قدمت لهم مجموعة من القوادين ومافيات الجنس، ليتمكن من بيع أجسادهن في أسواق سلعة الجنس. صدقوا ما شاهدتموه من أفلام تتحدث عن عمليات خداع وإختطاف للنساء السلافيات، فكانت مافيا الجنس تقول لهن أن هناك فرص عمل في متجر، محمص، مقهى، أي شيء، ليتفاجأن بعد ذلك ويجدن أنفسهن بناتاً للهوى!
بعد إنهيار جدار برلين، الجدار الفاصل بين “الحرية" و “الإستبداد"، بين الجماعية والفردانية، بين سعادة السلعة وسعادة الواقع، وقفت مكانه النساء يبحثن عن الحلول الفردية حالهن حال كل من تنقصه الخبرة في أداء ذلك “الحل الفردي"، والحل الفردي لا يمكن أن يكون قيمياً، لا يمكن أن يبني قيماً متجاوزةً لحدود المصلحة الخاصة، وبأي ثمن، نعم بأي ثمن!
بدلاً من جدار برلين ظهر شارع E55، على الحدود الألمانية التشيكية، وعرف للأسف بطريق “الحب" حيث تنتشر أكبر بؤر للدعارة في تلك المنطقة. وبديلاً عن جدار برلين ظهر سوق أريزونا، ركزوا جيداً، سوق “أريزونا"، شمال غربي صربيا على الحدود الكرواتية، كما سمي كذلك وول مارت صربيا، نعم “وول مارت"!
تسرد الكاتبة " لقد كادت الدعارة تختفي نظرياً من الدول الشيوعية على الرغم من أنه لم يتم حظر ممارستها بصورة رسمية، وإزدهرت شبكات الدعارة إثر إنحلال الشيوعية، ووصلت نسبة البطالة بين صفوف النساء الروسيات إلى 80%، بينما إقتربت من الصفر في العهد الشيوعي".
كانت النسوة يشكلن نسبة 83% بالمئة من القوى العاملة في قطاع النسيج، في شمال شرق موسكو وشيبوكساري . بعد ثلاثة أعوام فقط من الإنهيار إنخفضت النسبة إلى 60%، وجدت أعداد كبيرة من النسوة أنفسهن يستجدين الصدقة في تلك المناطق التي إنطلق إليها القوادون وتجار الرقيق بعد الإنهيار، وباتت تلك المناطق تعرف للأسف بمناطق بنات الهوى.
كما توضح الكاتبة أن الكيان الصهيوني تعد من أكبر موردي البغايا السلافيات، ووفق ما أوردته لجنة الإستيضاح البرلماني الصهيونية أنه يتم تهريب حوالي 3000 إلى 5000 إمرأة من الإتحاد السوفياتي السابق إلى الكيان الصهيوني سنوياً وبيعهن للعمل في مجال الدعارة. وأكثر من يمارس ذلك هم اليهود الأكثر تطرفاً، ونشأت قاعدة من القوادين المحليين في الكيان الصهيوني تربطهم علاقات وثيقة مع المافيا الروسية.
لا تستطيع الرأسمالية أن تبني قيماً، كما أنها لا تستطيع أن تعيش بلا صناعة الأوهام وبناء مجتمع الإستعراض، فتنتج أفلاماً من شاكلة بريتي وومن لتتوهم المرأة أن عملها في الدعارة سيضع في طريقها رجل أحلامها! في دراسة عرضتها الكاتبة عن فتيات روسيات في المدارس، وجدت أن ععداّ كبيراً منهن اليوم يتمنين العمل كمومسات، وفي السابق كانت أمنياتهن أن يصبحن معلمات أو رائدات فضاء.
في عالم أنتجت فيه الدعارة 52 مليار دولار، لا يمكننا القول إلا أننا نحيا إقتصاد الدعارة، الإقتصاد الرأسمالي محفز المبادرات الفردية والحلول الشخصية للأزمات الإقتصادية!
إن إنهيار الشيوعية لم يؤد إلا لجعل الناس أكثر أنانية وبالتالي حصول أزمة أخلاقية مروعة إستمرت حتى يومنا هذا. فيكتور إروفييف.
(3)
الرأسمالية: إقتصاد المافيا
في الإقتصاد الرأسمالي يسود منطق المافيا على العملية الإقتصادية بأكملها، فتغيب الدولة وتتحول أجهزتها الأمنية لأداة مخصصة للقمع فقط، وتتمظهر العلاقات المصلحية القوية بين أرباب النظام السياسي ورجال الأعمال، ويتحول رجل الأعمال إلى سياسي مرموق، ويتحول السياسي “المرتشي" إلى رجل أعمال “ناجح"، ويصدر القرار ببدء الحرب والغارات الجوية في إجتماع لرجال الأعمال يصادق عليه الكونغرس بشكل صوري لاحقاً. فرجال الأعمال هم من دعم الحرب على العراق، بواجهة سياسية وتجارية في آن واحد تمثلت في الجمهوريين والديمقراطيين على حد سواء، فشركات النفط إستولت على الآبار العراقية، وحصلت شركة بيكتل التي ترأسها جورج بوش على أولى عطاءات إعادة الإعمار في العراق، وظهرت الحاجة لشركات الإتصالات بعد تدمير الأبراج، والحاجة إلى شركات مياه ومقاولين بعد تدمير البنية التحتية، وشركات الحماية و التأمين على الحياة بعد غياب الأمن..... إلخ، لقد شكلت تجربة العراق إحدى تجليات مافيا الرأسمالية، التي لن تتوانى عن حرق شعوب بأكملها في سبيل المزيد من الأرباح.
تاريخ الرأسمالية ممتلىء بكم هائل من المشاهد التي توضح الجانب المافيوي في الإقتصاد الرأسمالي ككل:
في خريف عام 2003م، تستقر سفينة في ميناء جيويا تاورو في إيطاليا، أكبر مرافىء أوروبا. كانت هذه السفينة محملة ب 5500 كيس مملوءة بالكوكايين،وكشفت الوثائق أن هذه الشحنة كانت مشحونة لصالح ميغيل دياز وهي شركة إستيراد وتصدير تعمل كواجهة أسسها كارتل المخدرات الكولومبي، والحمولة متجهة إلى شركتي رخام، ومن ثم تسليم الشحنة إلى متجر محلي يملكه أحد أعضاء عائلات الندرانغيتا المعروفة. في عام 2003م تم إيقاف هذه العملية من قبل الجمارك الإيطالية، ولكن تلك الحادثة كانت الإستثناء وليس القاعدة، فإلى اليوم العمليات الكبرى لا تكشف، ولا تقنن، باختصار لأنه لا يمكن ذلك! فشبكة الإقتصاد العالمي مافيوية الطابع، وتقنن نفسها من خلال منظمات دولية تصبغ عليها “الشرعية"، وعمليات المتاجرة بالمخدرات عادة ما تكون بتنسيق عالي المستوى بين المافيات “بتعريفها الكلاسيكي"، ورجال الدولة السياسيين، وضباط الأمن ومكافحة المخدرات. هذا هو بالضبط ما ينتجه النظام الإقتصادي الرأسمالي، أن يعيد تعريف كل الأشياء في الحياة بناء على الربح، فيصبح الجميع رجال أعمال من درجات مختلفة، حتى الضابط الأمني على الحدود، وتصبح كل الأفعال هادفة للربح فقط، وفي سبيله تتلاشى الكثير من القيم، سينسى الضابط قيم الجيش والإنضباط والبداوة وقيم الفلاحين وغيرها، كل هذه القيم مهما كانت ستذوب أمام إله البشرية المطماع، المال!
في بلغاريا بين عامي 1990م و 1995م، تضخمت المافيا إلى حد كبير، فبعد عام 1991م أصبح من السهل تمرير السيارات لبيعها، وقد تكفلت المافيا بهذه المهمة، و طورت منها إلى الحد الذي أصبحت فيه مشروعاً إقتصادياً مدراً للمال، فقد تكفلت أيضاً ببيع تأمينات مزورة للسيارات، ومن يرفض الإشتراك في هذا التأمين ستحرق سيارته أو تسرق.
إنفجرت في العالم منذ عدة عقود سياسة تبييض الأموال(“إستخدام أموال ناتجة عن نشاطات غير مشروعة “تجارة المخدرات والرقيق والجنس" في إستثمارات طبيعية لإخفاء مصدرها) ، ولكن بعد إنهيار المنظومة الإشتراكية شاركت دول التكتل في هذه العملية، وساهمت بشكل كبير في تشكيل الفقاعة المالية الكبيرة. حسب لوريتا نابوليوني، فقد تم غسل 1.5 تريليون دولار في أمريكا قبل 11-سبتمبر. اليوم يتم نقل المال من دولة إلى أخرى بأسعار زهيدة، وبترتيبات مافيوية بسيطة، شاحنات تحمل الورق لتنقلها من مكان إلى آخر، وتكتمل السلسلة الإقتصادية من أصحاب العمل “تجارة المخدرات أو الرقيق أو غيره"، وأجهزة الأمن على الحدود، والنظام السياسي الذي سينال نصيبه ومن ثم تحاربه الناس “بالفساد" والخروج عن القانون. لقد آذت عمليات تبييض الأموال الدخل القومي للشعوب، وزادت السيولات المالية في يد فئة محددة مما زاد من قوتها الشرائية مما عمل على رفع الأسعار. على كل حال، لن يأتي الحل لكل هذه التفصيلات من خلال الغرق فيها أكثر وأكثر، هنا لم يتم تطبيق القانون وهناك نحن بحاجة إلى قانون آخر. المسألة ليست كذلك، ليس هناك من قانون سيمنع تلك العمليات طالما أن هذا النظام الإقتصادي هو الذي يدير حياة الناس ويشكل وعيها، طالما أنه يقذف بهم جميعاً إلى الحلول الفردية بأي ثمن. لقد أقرت الولايات المتحدة الأمريكية قانوناً لتنظيم دخول العملات النقدية، فهل توقفت عمليات غسيل الأموال؟ وإن كانت كذلك، هل يصعب تنفيذ هذه العملية من خلال عمليات بيع وهمية، أو شراء عقارات في مناطق أخرى في العالم أو، أو، ..... إلخ.
المافيوية هي صفة ملازمة لهذا النظام، كما هي الفردية تماماً، وهناك علاقة حاسمة بينهما، فالفردية في الإقتصاد لا بد أن تقود إلى المافيا. المنظومة الإقتصادية التي تبني معها القيم، هي تلك التي تعزل الشعور بالتوتر الدائم والخوف الدائم مما هو قادم، هي المنظومة القادرة على حملك إلى التفكير فيما ترغب وليس فيما تحتاج إلى مال، هذان نمطان متناقضان تناحرياً لا يمكن من إيجاد صيغ بينهما في المنتصف، إما الإشتراكية وإما الرأسمالية.
(4)
المافيا أو الإشتراكية
لوحة “هبة شعب" للفنان ديغو ريفيرا
تتعرض الباحثة لتعبيرين مفاجئين: قاطع الطريق المتمركز، وقاطع الطريق المتجول. أما قاطع الطريق المتجول فهو المافيا المستعدة للقتل ولفعل كل شيء في سبيل الأرباح الإضافية، وهي واثقة من وجود ضحايا جدد دائماً، وهذه المافيا، هي حلف طبقي متكامل من السياسة إلى الإقتصاد والإجتماع، من تبييض الأموال إلى تجارة الجنس والمخدرات، إلى اللعب بالورق والمضاربات في صالة قمار عالمية كبرى تتسع لكل أعضاء المافيا في كل أنحاء العالم، بعدما دخلت دول المعسكر الإشتراكي نادي “الديمقراطية"، تضخمت المافيا وإنفجرت معها قيم جديدة، إنها ثقافة الرأسمالية التي تفرض نفسها من خلال نموذجها الإقتصادي بالدرجة الأولى.
يتفق الكثيرون على وصف بوتين بقاطع الطريق المتمركز بمحاولاته المتعددة لتجريد الأقلية من أصولهم المالية، وبالمناسبة هؤلاء هم الذين بنوا هذه الثروة المالية في ظل أكثر الظروف تعقيداً التي أحاطت بروسيا لحظة تفكك المنظومة الإشتراكية، فلقد لحق بالبيروسترويكا “مرحلة إعادة البناء" ،والتي إشتملت بالدرجة الأولى على إجراءات خصخصة، لحق بها عمليات تحويل للعمل المتداولة في روسيا “الروبل والبيزناليتشني" إلى الدولار، وتحويل مبالغ هائلة إلى حسابات في الخارج عادت للإستثمار في روسيا ومن ثم الخروج مرة أخرى وهكذا. ما حاول بوتين عمله هو فرض سياسة وقوانين إقتصادية على هؤلاء الأقلية، وهذا ما قدم عملياً من دور روسيا سياسياً وإقتصادياً من جديد.
إذن، ينظر الناس إلى خيارين إثنين: خيار الفوضى والمافيا وتجارة المخدرات والجنس والرقيق والقتل والجريمة والمغامرة الإقتصادية الطموحة للطبقة الوسطى والتسليع والإستهلاك والاستلاب والعمل ليلاً نهاراً رغبة في إمتلاك سيارة جديدة، وتفريغ كل هذا التوتر في موسيقى “عصرية" ،وحرية تعبير عن الرأي دون الأخذ به، وحرية تشكيل أحزاب سياسية لا تختلف في برامجها، وفي اللحظة التي تختلف فيها أي منها عن التوجه الإقتصادي المطلوب ستندفع أجهزة الأمن لإعتقال ممثليها، وهذه هو قاطع الطريق المتجول. والخيار الثاني: أن توجد الدولة لتقدم سلعاً وخدمات عمومية، وتخوض معركة مع قاطعي الطرق المتجولين بصفتها قاطع طرق متمركز، ومعنى قاطعي طرق متمركزين، أنهم يمتلكون حقاً حصرياً في العقاب، الذي قد يتضخم أحياناُ إلى حد الجريمة.
هل قدم قاطع الطريق المتجول حرية وديمقراطية كما وعد؟ وهل قدم قاطع الطريق المتمركز حماية من الفقر كما وعد؟ حتى في سياق التجرية التاريخية، الأول نكث والثاني إلى حد ما أوفى. لا تستغربوا إذن إن قلنا أننا اليوم بأمس الحاجة إلى قاطع طريق متمركز غير مستبد! ولكن لماذا نحتاج إليه؟ ألا يمكن اليوم تغيير العالم دفعة واحدة ونحيا الحرية والديمقراطية اللانهائية والرفاه في آن واحد!
عندما سقط جدار برلين، دمج مكونين مختلفين تماماً، مكون يلهث خلف السلعة، والآخر يحيا السعادة بمنطق آخر، مكون فرداني النزعة، وآخر تشاركي النزعة. غزا الغرب الشرق بسلعه وإستهلاكه ونمط عمله وتوتره وفردانيته، واليوم نحن نواجه إقتصاداً يمتلك مافيا وعصابات ورجال سياسة متآمرين معها وملكية خاصة متجذرة في الوعي حتى لدى الفقراء، ومؤسسات مجتمع مدني تزيف وعي الطبقة الوسطى، ولجان إحسان تحول الفقراء إلى متسولين، ومنظمات إقتصادية عالمية تشرعن عمل المافيات، ومنظمات سياسية عالمية تحمي المافيا وتمدها بجيوش نظامية. كل هذا يجعل الحل ينطلق من الحاجة إلى “قاطع طريق متمركز". هل يمكن للرأسمالية أن تستغني عن مافيويتها؟ بالتأكيد لا. هل يمكن للديكتاتور أن لا يكون مستبداً؟ أنا أقول بالتأكيد نعم..
(5)
الرأسمالية، إقتصاد الموت
تناولنا في القسم الأول من هذه المادة الإقتصاد الرأسمالي ومنظومته الإجتماعية القيمية المرافقة، وهذه المنظومة تنظوي على العديد من الكوارث الإجتماعية، تحدثنا في تفصيلاتها عن بندين أساسيين: المافيا والدعارة. وهنا سنتجه إلى بند عام وخاص في آن واحد، إقتصاد الموت، عموميته تكمن في أن الموت مفهوم واسع يشتمل على العديد العناصر، وقد لا يعني الموت البيولوجي فقط، فالإقتصاد الرأسمالي يقدم وجبة متكاملة من الموت المعنوي، ويمارس هذا الصنف من التصفية، التوتر والقلق والإستلاب والإغتراب، كلها عناصر مرتبطة بعمومية الموت. وفي الشق الخاص تكمن الفكرة في توحد الرأسمالية مع الربح دون أية حسابات أخرى، وهذا التوحد ينتج لامبالاة الرأسمالية في المشي على جثث البشر في سبيل الربح ! وهذا فعلاً ما حصل من خلال العديد من المشاهد المباشرة وغير المباشرة، وسآتي على ذكر البعض منها هنا:
تأتي قوانين المليكة الفكرية وبراءات الإختراع في حزمة واحدة مع قوانين الرأسمالية، ولقد تم تضمينها في حزمة إتفاقيات منظمة التجارة العالمية. وتشتمل هذه القوانين على حماية المكتشف أو المخترع لضمان الكسب الدائم من منتجه حتى لو كان دواء، إذن لا تستغربوا أبداً من موجات فيروسات جديدة من جنون البقر إلى إنفلونزا الطيور إلى إنفلونزا الخنازير التي ظهرت بعد عدة دراسات عملت عليها مختبرات متخصصة في دراسة الإنفلونزا الإسبانية التي أودت بحياة الملايين بعد الحرب العالمية الأولى. هنا يفتح الباب على موجة واسعة من الأسئلة: ما معنى الحرية الفردية في سياق كهذا؟ وما معنى تقدير الإبداع الفردي فيه؟ وأين تقع الضرورة البشرية الجماعية في هذه الحالة؟ هل هذه هي الحرية الفردية التي تروج لها الرأسمالية، حرية الربح، التي تعبر عن الإبداع المرتبط بالإحتكار ، إذن في هذه الحالة لا مفر من أن يكون الإبداع مجرماً!
المنافسة على الأرباح تفتح الباب وبشكل ضمني على القرصنة، هذه هي الثروات المالية أمامكم، إنقضوا عليها، ولكل “مجتهد" نصيب! دخلت القرصنة عالم الملاحة الجوية، وهذه القرصنة المنصبة على قطع الغيار بالدرجة الأولى، أودت بحياة جميع ركاب طائرة كونف إير النرويجية عام 1989م، وسببت إنفجار طائرة الكونكورد المقلعة من باريس عام 2000م. إبتدأت هذه المسيرة بتحرير شركات الطيران من التشريعات الناظمة بمباركة كارتر عام 1978م، وإستكملها ريغان بعد ذلك بمزيد من التحرير.
بمنحى دعائي معروف للجميع، سحبت السلطات البريطانية عام 2005م حوالي 120000 علبة من عقار ليبيتور، فقد إكتشف أن هناك الكثير من العلب “المقلدة" التي أودت بحياة الكثيرين. حسب نابوليوني هناك نصف مليون شخص يموتون سنوياُ بسبب العقاقير التجارية. كانت هذه الدراسة عام 2006م. كما تسببت لقاحات مقلدة ضد إلتهاب السحايا بمقتل 2500 طفل إفريقي عام 1995م.
فشل كلوي، فاختلال الجهاز العصبي، ثم الشلل، فصعوبة التنفس، فالموت. هذا هو المسار الذي طرحه كاتبان أمريكيان " والت بجدانيش وجاك هوكر"، في وصفهم لمأساة مئات البنميين الذين ماتوا بشحنة دواء سامة، مرت من ثلاث قارات، وثلاث شركات طبية كبرى، وبتصاريح عبور تخفي نقطة الإنطلاق، مرت هكذا بكل أمان!
في مصنع أنتج 137.000 قطعة من الآيفون، وفي ظل ظروف عمل قاسية جداً “ساعات العمل الإضافية الإجبارية تحديداً" أقدم 18 موظفاً عام 2010 على الإنتحار.
“إجعل الناس يمرضون بسب الطعام الذي يحبون تناوله، ومن ثم عالجهم بالدواء والجراحة، وهكذا سيكسب الجميع، ويرتفع الناتج المحلي الإجمالي" هذا هو النمط الأمريكي حتى في العلاج، البائع هو الطبيب، والمريض هو الزبون، والوهم في العلاج هو السلعة!
إن الرأسمالية خلقت شرخاً لا يمكن إصلاحه في العلاقة التبادلية “الأيضية" بين البشر والطبيعة، وبتعبير آخر بين البشر وشروط الإنتاج الدائمة التي تفرضها الطبيعة. هذا ما فعلته الرأسمالية عندما فتحت الباب للمبادرة الربحية الفردية وإنتقدت التخطيط المركزي لآلية الإستفادة من الطبيعة وآليات التعاطي مع قوانينها. هكذا يرتبط الإحتباس الحراري والتصحر وشح المياه المسحوبة لمزارع الرأسماليين أصحاب النفوذ وتلوث المياه، هكذا ترتبط جميعها عضوياً بالمنظومة الرأسمالية ونظرتها للتعامل مع الطبيعة. كتب ماركس في هذا السياق “لم يجدوا في لندن طريقة أفضل من التخلص من فضلات أربعة ملايين ونصف مليون نسمة سوى تسريبها إلى نهر التايمز". يتهم عدد من الباحثين الماركسية بأنها علمية جافة إلى الحد الذي لم تتعرض معه إلى الإيكولوجيا، وعلى العكس من ذلك، فالماركسية هي التي تناولت الفكرة القائلة أن الإنسان “في ظل الرأسمالية" هو من يقوض شروط الإنتاج التي تفرضها الطبيعة، وبذلك يشرخ العلاقة الأيضية معها!
لا تتمكن الرأسمالية من العيش دون حروب ومن دون خلق التقسيمات الإثنية والطائفية والإقليمية، لأنها تعيش على القصور الذاتي لدول الأطراف، تعيش على عجزها عن التنمية الذاتية، بإختصار لأن مشروعها يحتاج إلى التوسع وتفريغ المنتجات في الأسواق على هذا الأساس. هذ ما فعلته في الوطن العربي على أسس سني وشيعي، شمالي وجنوبي، مسلم ومسيحي، عربي و “آخر" كما هو الحال في الشمال الإفريقي، وهذا ما فعلته في الهند عندما قسمت المكون السكاني إلى مسلم وهندوسي.
لم يكن هذا العرض من الأمثلة لإستدرار العواطف وقراءة الفاتحة على أرواح الشهداء، فالمطلوب من عرض التفاصيل دائماً ربطها بالفكرة الأساسية الشمولية وجذر المشكلة، النظام الرأسمالي العالمي يقدم حزمة متكاملة من الموت، الموت البيولوجي، والموت المعنوي السيكولوجي، يد تسن القوانين والتشريعات لحماية المنتج وأخرى تصنع الداء والدواء، طائرة تقصف وتدمر البنى التحتية وشركة تنال العطاء “لتبني"، يد تنهي خصوبة التربة وتلوث المياه والأبواق السياسية المعاونة تقر إتفاقية كيوتو، نظام متكامل يقذف بالعمال إلى الإغتراب والإستلاب ومن ثم الإنتحار ويتقبل مدير المصنع التعازي ولربما يقدم التعويضات المالية.
في وصية جارودي للقرن الحادي والعشرين، أشار إلى سباق الرأسمالية المحموم نحو الموت و"الإنتحار الكوني"، هذا النظام، هو نظام المافيا والدعارة والموت. فمن الإفقار إلى الدعارة، ومن المسابقة على الأموال إلى المافيا، ومن المافيا إلى الموت.
* تم النشر نقلاً عن مركز دراسات وابحاث الماركسية واليسار
لا يمكن للرأسمالية إلا أن تكون مافيوية، لا تبحثوا كثيراً في تشذيبها و تحاولوا جعلها قابلة للحياة. هذا النظام يعيش في حزمة متكاملة لا يتخلى عن أي من مكوناتها: المافيا والوهم والدعارة والموت.
في وصية جارودي للقرن الحادي والعشرين، أشار إلى سباق الرأسمالية المحموم نحو الموت و"الإنتحار الكوني"، هذا النظام، هو نظام المافيا والدعارة والموت. فمن الإفقار إلى الدعارة، ومن المسابقة على الأموال إلى المافيا، ومن المافيا إلى الموت.
“إجعل الناس يمرضون بسب الطعام الذي يحبون تناوله، ومن ثم عالجهم بالدواء والجراحة، وهكذا سيكسب الجميع، ويرتفع الناتج المحلي الإجمالي" هذا هو النمط الأمريكي حتى في العلاج، البائع هو الطبيب، والمريض هو الزبون، والوهم في العلاج هو السلعة!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.