أوله مسجد، وأوسطه كنيسة، وآخره معبد.. هكذا يبدو شارع "النبي دانيال"، أحد أقدم وأشهر شوارع الإسكندرية وأعرقها تاريخًا وأكثرها تنوعًا وحضارة، حيث أبقت المدينة الكوزموبوليتنانية لنا الكثير من الآثار؛ دليلاً على احتضانها للعديد من الديانات والثقافات المختلفة على مر التاريخ. فمنذ إنشائها على يد الإسكندر الأكبر عام (332 ق. م.) وهي منارة للحضارة والعلم ومقصد للعلماء؛ ليأتي الحاضر محملاً بشهادة الشارع الأكثر شهرة ببعض الآثار المتبقية منه من العصر اليوناني والروماني والإسلامي؛ لتشهد على عراقة الماضي وثقافته وتنوعه واحتضانه للثقافات المتعاقبة. وفي الحاضر يحصل الشارع على شهرته من كونه يربط بين منطقتي محطة مصر ومحطة الرمل؛ ليكون الطريق الأيسر بين أكثر المناطق الشعبية ازدحامًا (محطة مصر) والمركز التجاري الأهم للإسكندرية (محطة الرمل). ويحتوي شارع النبي دانيال على أكبر سوق مفتوح تباع على أرصفته الكتب القديمة، كصورة كربونية لسور الأزبكية بالقاهرة، كما يحتوى على العديد من المؤسسسات، كمبنى مؤسسة "الأهرام" ومقر حزب "الوفد". ومسجد النبي دانيال، في أول الشارع، أحد أعرق المساجد، والكنيسة المرقسية أقدم كنيسة في مصر وإفريقيا، وهي بالمناسبة المقر البابوي لبابا الإسكندرية في المدينة، كما يوجد بالشارع ذاته المعبد اليهودي، وهو آخر المعابد اليهودية في مصر؛ ليكون كل ذلك خير شاهد على روح المحبة والتآلف بين سكان الإسكندرية منذ القدم. ويقول محمد حسين، بائع كتب، إنه يعمل في هذا المكان منذ ما يقرب من 30 عامًا، و في البداية كان يفرش كتبه على الأرض هو والعديد من باعة الكتب، ودائمًا ما يدخل في صراع مع شرطة المرافق، إلى أن استجاب اللواء عبد السلام المحجوب، محافظ الإسكندرية الأسبق، لمطالبهم، وخصص لهم هذه الأكشاك الموجودة الآن، والتي أضفت نوعًا من الرقى والتحضر على الشارع بديلاً عن الفرش على الأرض والذي يسيء إلى مكانة الشارع التاريخية. وأضاف أن الشارع معروف لدى جموع الإسكندرانيين باسم "شارع الكتب"، مشيرًا إلى أنه يمثل "سور الأزبكية" السكندري، والذي يقصده كل من يهتم بالكتب القديمة والجديدة، وسواء باللغة العربية أو اللغات الأخرى، فيجد ضالته هنا بأسعار زهيدة، كما أن العديد من الأجانب يقصدون المكان بكثرة، خاصة الفرنسيين الذين يأتون إليه قبل دخولهم إلى المركز الثقافي الفرنسي، الذي يقع أيضًا مقره في نفس الشارع. ويعد مسجد النبي دانيال من أقدم وأشهر المساجد في مصر، ويعتبر مزارًا للعديد من السياح الذين يأتون لزيارة الضريح المقام أسفل المسجد في نفق يصل إلى 5 أمتار، والذي يشاع أنه للنبي دانيال، والذي عثر علي بقايا جثمانة جنود عمرو بن العاص عقب فتح مصر، وقد وجدوا هيكلاً عظميًّا لرجل ليس من أهل العصر، فله أنف طويل ويد طويلة وعليه أكفان مرصعة بالذهب، فاستعان ابن العاص بالخليفة عمر بن الخطاب، والذي أكد له أنه النبي دانيال، فأمر ابن العاص بتحصين القبر؛ خوفًا من اللصوص، فأقيم المسجد فوقة. ويكذب عدد من الأثريين هذه الرواية، ويقولون إن المقام للشيخ محمد دانيال الموصلي، وهو رجل صالح عاش في الإسكندرية في نهاية القرن الثامن الهجري، وكان عالمًا زاهدًا وعظَّمه أتباعه، وأقاموا المسجد فوق ضريحه. ومن جانبه قال د. محمد مصطفى، مدير عام آثار الإسكندرية، إن شارع النبي دانيال يعتبر الشارع العمودي الذي يقطع الإسكندرية القديمة في العصر البطلمي والروماني، مشيرًا إلى أن المدينة أنشئت على شكل رقعة الشطرنج، ويقطعها شارعان رئيسيان يخرج منهما شوارع أخرى، والشارعان هما شارع النبي دانيال في الجانب الشرقي الغربي، وشارع فؤاد من الشمال الجنوبي. وأضاف مدير عام آثار الإسكندرية أن العديد من الدراسات تقول إن الإسكندر الأكبر مدفون في الشارع الجنوبي، وهو شارع فؤاد المتفرع من شارع النبي دانيال، وأن محمود باشا الفلكي حفر في المكان عام 1866، لكنه لم يجد شيئًا, ولدى الأثريين اعتقاد أن القبر في الإسكندرية، وهناك دراسات تشير إلى أنه في الحي الملكي أو في مرسى مطروح، ودراسات أخرى تؤكد وجوده في سيوة، ولكن البحث عن المقبرة ما زال جاريًا. Comment *