هل أصبحت العلاقة بين الحكام والمحكومين تشبه علاقة الأسياد بالعبيد، والغنى بالفقير، والعزيز بالذليل، نراها حقيقة قائمة فى مجتمعاتنا، فما أن يصبحون حكاماً حتى يُغْمَسون فى النعيم غمسةً، تتبدل فيها أحوالهم، تَنْضُرُ بعدها وجوههم، وتستطيل أعناقهم، ولا تراهم إلا فى السيارات الفارهة، والمواكب الباهرة، والقصور المشيدة، والاستقبالات واحتفالات منح الأوسمة والنياشين، والطائرات الفخمة الضخمة، وإذا سألت لماذا كل ذلك ؟ أجابوك بأن الرئيس هو رمز الوطن وقوته، فصورته من صورته، وكرامته من كرامته، وعزته من عزته، فلا ينبغى أن يظهر أمام ضيوف مصر من الأجانب إلا فى أبهى وأجمل وأغنى صورة، فتعلو قيمة مصر وتُثبت قيمتها وأصالتها بذلك!، وهكذا بررت وصورت له بطانته من المنتفعين هذا الرياش الباذخ، والإنفاق الهادر لأنهم فيه سواسية متنعمون منتفعون، ولا يدرى الرئيس أنه أكرم له ولوطنه أن يمثل بلده بكل ما فيها من معاناة وفقر وعوز واحتياج، بعد أن أجلسه الشعب على كرسيه إثر ثورة شعبية أطاحت بالذى استعلى وتجاهل معاناتهم، فينبغى عليه ألا ينفصل عن واقعها مثله، ولا يحتجب فى نفس البرج العاجى الفخيم، وألا يجلس على ذات العرش العالى الذى كان لسلفه، وألا يقبع وراء نفس تلك الأسوار العالية المنيعة، وألا يتخذ من البطانة المضلة المرفهة جليساً ورفيقاً وناصحاً، فشعب مصر لا يملك قصوراً ولا ضياعاً كالذى هم فيه، فقد بلغت به المعاناة فى حياته كل مبلغ، لا يجد فيها ضرورياته من ملبس ومأكل ولا يجد الكثيرين مجرد المسكن والمأوى. وعلاقة الحاكم العربى بشعبه تمثل استمراراً لماضٍ أسود قاتم، فبعد وقوع الفتنة الكبرى تم استخدام الإسلام، وتم التعتيم على بيانه وأصوله ومفاهيمه التى تدعو إلى الحرية والإباء على يد أصحاب المصالح السياسية الضيقة فى الدولة الأموية الناشئة، التى قامت على أساس الملك العضوض الباطش، المرتكز على القبلية والأصل، ليمثَل ذلك ارتداداً جاهلياً صريحاً على قيم الإسلام في الشورى والحرية والعدالة، وجعلت من فقهاء السلطة بطانة مستفيدة من السلطان الباطش فيما يشبه طبقة كهان جدد، عملوا جاهدين على بسط وتأسيس الواقع السياسى المستبد المخالف لمنهج الإسلام، فعملوا على تبرير ظلم الظالمين بواسطة توظيف الكثير من الأحاديث المنحولة على الرسول، فاختطفوا الدين بدعمٍ من أسيادهم الذين اختطفوا السلطة من قبل، وجعلوا منه خدمة لأهوائهم وأغراضهم فى السيطرة والتسلط، متخذين أسلوب الإثارة والتضخيم للقضايا الفقهية الهامشية وسيلة لإلهاء المسلمين عن أصل الإسلام وجوهره، الأمر الذى حول خطابه عندهم إلى قصص وحكايات، بعدما كان منهجاً وبياناً، وتم التدليس بتصوير فقههم - الذى هو اجتهاد بشرى يمكن نقضه - كأوامر تشريعية مقدسة نافذة مستمدة من قوة الأمر الإلهى ذاته، وتم اختزال مفهوم الشريعة الشامل فى مجرد منظومة العقاب والحدود، التى رأوها تضيف لسيف السلطان الباتر، وتجاهلوا مفاهيم الستر والرحمة والمودة والتوبة والمغفرة فيها، والتى تغلف تلك المنظومة، وتفضح نصل ذلك السيف الدامى وبطش يد الحاكم الظالم، ليصير الحكم بعد ذلك ملكاً عضوداً مستبداً، يعادى فيه الحاكم الغالب بأمره المحكومين المغلوبين على أمرهم ويستعلى عليهم، ويظن أنهم يُرزقون من فيض إحساناته عليهم تحت مظلةٍ من تلك البطانة الفاسدة من الكهنة المضلين، الذين يسمون ظلمه حزماً، ورأيه حكماً، وأحاديثه كتب تتلى، ورغبته توجيهاً، وفسقه هنات. ولن تستطيع الشعوب العربية التحرر من تسلط وتدليس بعض ماضيها على واقع حاضرها إلا عندما تستطيع إعادة قراءة هذا الماضي بكل حيادية وعقلانية, ودرسه بالمنطق السديد ونقده، وتبيان الطيب فيه من الخبيث، لنقر الطيب ونرد الخبيث فيه, لأن علاقة الحاكم بالمحكوم في ذلك التاريخ الطويل ينبغى أن تراجع ويعاد تأهيلها لتوضع في قالبها الصحيح وحقيقتها الواضحة، فإن الحكام خدم الشعوب، وهم موظفون عامون يعملون لصالح تلك الشعوب وفق أولوياتها الوطنية وتحدياتها الخارجية، فإن صلحوا فلا منة لهم على أحد، وإن فسدوا يتم عزلهم ومحاسبتهم، وعليه يجب اجتثاث صور التأييد والتصفيق للحاكم واعتبارها جريمة تحريض على إفساده، واعتبار الشعب هو الضامن الوحيد والمراقب لتوازن مجتمعه ولاستمراره، وليس شخص الرئيس وذات الحاكم. يجب أن نعلى من إرادة شعوبنا وقيمتها وفق احترام قيمة النظام المجتمعى الشامل والقانون الذى تم إرساؤه ليكون الضامن لأمان المجتمع وسلامه، وليمثل حقيقة تقدمه وأمله فى حياة مزدهرة حرة كريمة. [email protected] Comment *