فى ذروة معمعة حملة الانتخابات الرئاسية، طرح الأخوان الشعار المركزى لهم وهو "النهضة" التى سوف تحمل الخير لمصر، ووعد المرشح وقتها خيرت الشاطر، أن حزب "الحرية والعدالة"، تتوافر لديه القدرة والجهوزية على ضخ نحو 200 مليار جنية فى شرايين الاقتصاد الوطنى، لتجسيد جانب من مشروع "النهضة" التى ستحمل "الخير" لكل المصريين. وحتى عندما أبعدت اللجنة المشرفة على الانتخابات الشاطر من سباق المنافسة، وحل محله محمد مرسى، ظل الشعار قائماً، والوعود ذاتها، بل تولى الشاطر بنفسه الترويج لمرسى كمرشح للجماعة. وعندما انتهت المنافسة لصالح مرسى، وأصبح رئيساً للبلاد فى 30 يونيو من العام الحالى، تمسك بمشروع "النهضة"، وعليه ألزم نفسه بنفسه، وبصورة عنترية بوعود خمسة رئيسية سوف يحققها فى ال100 يوم الأولى من ولايته، تتعلق بمحاور: الأمن، رغيف الخبز، الوقود، النظافة، المرور.! ومن الناحية الموضوعية، فإن مجمل هذه المحاور هى محصلة تراكم أزمات مزمنة منذ عدة سنوات ماضية، غير أن الانطباع العام أن مشروع النهضة والقدرة المالية التى وعد الإخوان بتوفيرها فور الوصول لسدة الحكم بمقدورها أن توفر المدخلات الموضوعية، والبداية الحقيقية فى معالجة جادة لهذه المحاور المرتبطة بمعاناة جماهيرية حادة، والقدرة على إحداث تحسن ملحوظ يلمسه المواطن العادى تجاه هذه الأزمات. غير أنه فى واقع الممارسة الفعلية، وبعد تشكيل حكومة جديدة، والتخلص من سيطرة العسكر على مقاليد السلطة، بات الطريق خالياً ليشهد ما إذا كانت تلك الوعود التى قطعها الإخوان على أنفسهم قابلة للتحقيق من عدمه. بيد أن المراقب للمشهد العام بمقدوره ملاحظة أنه سرعان ما توارى الحديث عن مشروع "النهضة" الموعودة، بل برزت التبريرات، بصورة ضبابية وساذجة، فى أن المقصود "بالنهضة" أنها "مشروع فكرى"!، يتحمل الشعب تحقيقه!، وأن ال200 مليار جنية التى كان من المفترض ضخها فى شرايين الاقتصاد الوطنى، كانت مجرد وعود كاذبة لا محل لها من الإعراب فى الواقع العملى، وذهبت أدراج الرياح، أو بالتعبير الشعبى أصبحت "بخ". والأغرب من ذلك حل محلها الجدل المصطنع حول "قرض" البنك الدولى، هل فائدته ربا، أم مصاريف إدارية، وبرزت فى الأفق تبريرات فقهية لإصباغ أن القرض "حلال" خلافاً لما كان عليه موقفهم إبان معارضتهم لذات القرض فى فترة حكومة د كمال الجنزورى، دون أن تتبلور الرؤية الكاملة ومصارحة الشعب بما يمكن أن يكون خلف هذا القرض من شروط تنعكس سلباً على حياة المواطن العادى المعيشية، والمطلوب صراحة من حكومة د. قنديل من إجراءات تتعلق بالدعم وخفض العجز فى الموازنة العامة حتى تتمكن تلك الحكومة من الوفاء بسداد هذا القرض، وفى أى المشروعات سيتم تخصيصه؟ هل سيكون فى مشروعات تنموية تدر دخلاً يمكنه الوفاء بسداد القرض؟ أم ماذا سيكون وضعه؟ .. ضبابية كاملة، وتبريرات واهية، وغياب الشفافية، وعدم استنفاد الوسائل المتاحة فى إيجاد بدائل متاحة تفوق بمراحل قيمة هذا القرض الذى لن يتجاوز، فى أحسن حالاته، أربعة مليارات دولار، بينما بالإمكان تدبير الموارد ذاتياً، دون حاجة لكل هذه الضجة حول القرض، وما يمكن أن يتولد عنه من مضاعفات سلبية على معيشة المواطن العادى. ولقد طرح أهل الاختصاص بدائل كثيرة كان يمكن الشروع فيها، لو توفرت الرغبة والقدرة والإرادة، منها فى المقام الأول، وضوح الرؤية، وطبيعة وشكل السياسة الاقتصادية التى ينتوى الإخوان تطبيقها، وطبيعة الانحياز الطبقى لصالح الفقراء والمهمشين. ولسنا فى حاجة لتكرار ما طرح بهذا الخصوص من ضرورة إعادة هيكلة أجهزة الأمن لتحقيق البيئة المناسبة لتدفق الحركة السياحية وانسيابها بشكل يمكنه توفير موارد كبيرة من العملة الصعبة، على الأقل فى المناطق القادرة على الجذب السياحى، وتحقيق أمن السياح بصورة منتظمة، ناهيك عن الشروع الجدى فى تطبيق الحد الأعلى للأجور بما لا يزيد عن 25 ضعفاً للحد الأدنى، والتخلص من "ظاهرة المستشارين" الذين يحصلون على مبالغ طائلة دون حاجة حقيقية للغالبية العظمى منهم، وضم الصناديق الخاصة بما يتوافر فيها من موارد ضخمة، يمكنها إحداث انتعاشة فعلية للموارد الذاتية، يمكنها أن تصب فى مجرى مشروعات تنموية حقيقية تقلص من حجم البطالة، وتوفر إنتاج فعلى يساعد على الحد من ارتفاع الأسعار وتقليص الواردات من الخارج، وفرض ضرائب تصاعدية على الدخول، ووضوح سياسة كفيلة بوصول الدعم فعلياً لمستحقيه، وعدم تمتع أصحاب الصناعات الكثيفة الاستهلاك للطاقة والوقود، خاصة الطوب والسراميك، ومزارع الدواجن وغيرها بالدعم بالأسعار المخفضة، بل بالسعر الحقيقى، وأصحاب السيارات الفارهة، والتى يصل الدعم فيها لنحو 90 مليار جنية من قيمة الدعم، البالغ 100 مليار للطاقة، والتى بمثل هذه الإجراءات البديهية يمكن إصلاح الخلل فى الموازنة العامة، بما لا يحمل أصحاب الدخول الدنيا والفقراء أعباء معيشية إضافية. عطفاً على كثير من التدابير الأخرى التى بمقدورها توفير موارد مالية، خاصة استرداد الأرض والثروة المنهوبة، والأموال المهربة، وإعادة النظر فى سياسة الخصخصة، وبيع شركات القطاع العام بأسعار بخسة، واستعادة ما حكم القضاء باستعادته للملكية العامة، وإدراك أن هذه الشركات، إذا توفرت لها إدارة جيدة، لعبت ويمكنها أن تلعب دورأ اجتماعيا ملحوظاً لصالح الطبقات الفقيرة فى المجتمع. وفى التحليل الأخير، وبصرف النظر عن المشاهد العبثية للقاء الجماهيرى الذى عقده الرئيس مرسى فى إستاد القاهرة بمناسبة ذكرى 6 أكتوبر، وخطابه المطول، ومحاولته إيهام الجماهير بما لا تحس به من تحسن ملموس فى أوضاعها المعيشية والحياتية فى المحاور الخمسة، فقد بات جلياً مسعى السلطة الحاكمة تصدير الأزمات للشعب بدلاً من حلها بصورة ناجعة وجذرية، ووضع برامج زمنية محددة فى هذا السياق لتنفيذ سياسات واضحة تعكس رؤية حقيقية وانحياز طبقى ملموس لصالح الفقراء والمهمشين عوضاً عن محاولات إعادة إنتاج تحالف السلطة والثروة فى صورته الجديدة – القديمة، وكأن الشعب الذى ثار وهتف، مراراً وتكراراً "بإسقاط النظام" وإعادة بناء نظام جديد مغاير يحقق الحرية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية والاستقلال الوطنى، وهى شعارات ثورة 25 يناير الكبرى، والتى يحاول من هم فى سدة الحكم الانتساب، قولاً لا فعلاً، لهذه الثورة، عبر انحياز حقيقى لفقراء الشعب، بسياسات تصب فى مجرى مصلحة هؤلاء الفقراء والمهمشين، وليس بتحالف رأسمالية الطبقة الجديدة من الإخوان مع نظيرتها من النظام السابق، كما وضح فى الكثير من المشاهد والتعبيرات. وخلاصة القول، أن الشعب يدرك مغزى وجوهر ما يتبع من سياسات، وما يتولد عنها من أعباء ترهق كاهله فوق ما يتحمله، ولا يشعر بتحسن حقيقى، سواء فى ال100 يوم الأولى من حكم الإخوان، أو ما سوف يتلوها من أيام، إذا استمر الحال على ذاك المنوال، وتواصل من هم فى سدة الحكم فى مسعى التمكين والاستحواذ على مفاصل الدولة، لتحقيق مشروعهم الخاص، وليس النهوض بالبلاد، وتحقيق نقلة نوعية فى مسار حياة عموم المصريين، فى تلك المرحلة الفارقة من حياتهم، خاصة مع قرب الانتهاء من صياغة دستور جديد، إن لم يتوافر فيه التوافق المجتمعى، وإقرار للمواطنة والحريات العامة، والفصل الحقيقى والتوازن بين السلطات، وطبيعة شكل وهوية نظام الحكم الذى يمكن أن تجرى الانتخابات التشريعية على أساسه، برقابة وإشراف قضائى كامل، وحيادية وقانون انتخابى واضح، فغياب كل ذلك، وغيره كثير، سيجعل الشعب يضيق ذرعاً بمثل هذه السياسات، وما تولده من صعوبات وأعباء إضافية، ومعاناة للطبقات الفقيرة والكادحة، ويغلق أمامها، وأمام قواها الحية كافة منافذ التغيير السلمى والحضارى، ويعرض البلاد لا محالة لثورة جياع لا يحمد عقباها، تلوح كثير من تجلياتها فى الأفق، الأمر الذى لا يتمناه كل عاشق لتراب هذا الوطن.. عسى أن يتقاسم من يتصارعون على "الكعكة" ذات الإحساس والشعور بالمسئولية الوطنية، بعيداً عن المصالح الضيقة، وحتى لا يبكوا على اللبن المسكوب..! Comment *