في العشرين من نوفمبر عام 1935، استشهد الشيخ عزالدين القسام في معركة ضد القوات البريطانية قرب جنين، وكان من شأن خبر استشهاد الشيخ اشتعال الغضب في نفوس الشعب العربي، لما كان له من مكانة لدي الجميع، وتولى الشيخ فرحان السعدي ابن الخامسة والسبعين قيادة جماعة القسام من بعده، وبدأت سلسلة من العمليات استهدفت الجيش البريطاني والمستوطنين اليهود.. وكانت الأحزاب الفلسطينية قد توحدت على مطلب واحد هو الحكم الذاتي، ثم شكلت اللجنة العربية العليا برئاسة الحاج أمين الحسيني في ظل حالة الإضراب العام التي دخلها الشعب الفلسطيني بكافة طوائفه، وشمل الإضراب كل مرافق البلاد باستثناء المطاحن والأفران والمستشفيات والعيادات والصيدليات.. ويعتبر هذا الإضراب هو أطول إضراب في التاريخ يقوم به شعب بأكمله إذ استمر178يوما دعت خلالها اللجنة العربية العليا الشعب إلى مؤتمر عام في السابع من مايو 1936، وكان مما تم التوصل إليه قرار بعدم دفع الضرائب لحكومة الانتداب، مع العمل على استمرار الإضراب بشتى الوسائل. اندلاع شرارة الثورة وفرض حالة الطوارئ قبل هذا التاريخ بنحو أربعة أشهر تسبب امتناع مقاول يهودي عن تشغيل عمال عرب في مشروع بناء ثلاث مدارس قرب يافا أسند إليه من جانب الحكومة- في أحداث عنف قتل فيها يهودي وأصيب آخر، وذبح الصهاينة قرويين بدافع الانتقام، مما فاقم الأوضاع، وتدخل القساميون وقاموا بعدة عمليات أدت لسقوط عدد من الصهاينة. على إثر هذه الأحداث أعلنت حكومة الانتداب حالة الطوارئ، واستدعت جنودا من خارج فلسطين ليصل عدد الجنود البريطانيين في فلسطين إلى نحو عشرين ألفا، معززين بالطائرات والدبابات ومختلف الأسلحة والمعدات. وتصاعدت وتيرة الأحداث واندلعت الثورة في أنحاء فلسطين، وخاصة في الشمال، وحمل الشعب السلاح، وانضم كثيرون لصفوف الثوار حتى بلغ عددهم قرابة الخمسة آلاف، وبلغ معدل العمليات المسلحة يوميا ضد الإنجليز واليهود نحو خمسين عملية. وفي الثاني والعشرين من أكتوبر عام1936، وصل القائد فوزي القاوقجي على رأس قوة من متطوعي العراق والشام قوامها حوالي مئتين وخمسين رجلا، وتولى الرجل القيادة العامة للثورة، وأحدث تغييرا نوعيا في تنظيمات الثوار.." ونظم الشئون الإدارية والمخابرات، و أقام محكمة للثورة، وأسس غرفة للعمليات العسكرية، وقد اعترفت القيادة العسكرية البريطانية في تلك الفترة بتحسن تكتيكات الثوار، مشيرةً إلى أنهم أظهروا علامات على فعالية القيادة والتنظيم". قبول اللجنة العربية العليا لوساطة الحكام العرب وإنهاء الإضراب تعرضت الثورة للتوقف الحذر في الثاني والعشرين من أكتوبر عام1936، بعد نداء وجهه حكام السعودية والعراق وشرق الأردن واليمن- إلى الشعب العربي في فلسطين طالبين منهم "الإخلاد إلى السكينة حقنا للدماء معتمدين على حسن نوايا صديقتنا الحكومة البريطانية، ورغبتها المعلنة لتحقيق العدل، وثقوا بأننا سنواصل السعي في سبيل مساعدتكم". كانت العمليات القتالية ضد الإنجليز واليهود قد بلغت حتى هذا اليوم نحو أربعة آلاف عملية، وقد تكتمت سلطات الانتداب أمر الخسائر الحقيقية التي منيت بها إذ أعلنت عن مقتل خمسة وثلاثين من جنودها فقط وجرح مئة وأربعة وستين، ومقتل ثمانين من اليهود وجرح قرابة الثلاثمئة، ومما يكذب هذه البيانات ما أوردته في سجلاتها الرسمية إدارة الصحة في نابلس من تصريحها بدفن مئة واثنين وستين جنديا بريطانيا خلال أول شهرين من اندلاع الأحداث. "وقد بلغت خسائر الحكومة البريطانية بسبب الإضراب ثلاثة ونصف مليون جنيه استرليني بالإضافة إلى خسائر توقف التجارة والسياحة، وهو ما يوازي ميزانية فلسطين لسنة كاملة في ذلك الوقت". قبلت اللجنة العربية العليا الوساطة العربية، وتم إيقاف الإضراب، وتم الدخول في شبه هدنة مؤقتة، وأرسلت الحكومة البريطانية لجنة للتحقيق في الأحداث، عرفت بلجنة "بيل" وتوصلت اللجنة إلى عدة توصيات هي: إنشاء دولة يهودية في المناطق التي فيها أكثرية يهودية، ووضع القدس وما حولها وحيفا ومنطقتها تحت الانتداب البريطاني الدائم، وإنشاء دولة عربية في ما تبقى من فلسطين وضمها إلى شرقي الأردن، وأعلنت بريطانيا أمام مجلس العموم البريطاني أنَّها تتعهَّد بتنفيذ وعد بلفور، أعلنت اللجنة العربية العليا رفضها للتوصيات ودعت لمقاومتها، كما رفضها اليهود، فعادت الاصطدامات من جديد، وفشلت السلطة البريطانية في اعتقال الحاج أمين الحسيني الذي كان قد غادر إلى لبنان في الرابع عشر من أكتوبر1937، فأصدرت قرارا بحل اللجنة العربية العليا، وقرارا آخر بإقالته من منصب رئيس المجلس الإسلامي الأعلى. اندلاع الثوة مجددا على أوسع نطاق وكانت جماعة القسام قد اغتالت الجنرال "لويس أندروز" حاكم لواء الجليل مما اعتبرته حكومة الانتداب إعلانا واضحا لإعلان الثورة مجددا ضدها، وقد استعدت الحكومة جيدا باتخاذ إجراءات بالغة القسوة، وبدأت حملة اعتقالات واسعة، ونفت عددا من قادة الثورة إلى جزيرة سيشل، محاولة سحق الثورة بكل ما أوتيت من قوة، إلا أن الثورة استمرت وعاشت فلسطين جوا من الثورة الوطنية العارمة التي حظيت بدعم شعبي هائل. وبحلول صيف 1938، كانت مناطق واسعة في شمال ووسط فلسطين تخضع بكاملها للقيادة الثورية التي أقامت حكما إداريا في تلك المناطق، ومحاكم للفصل في القضايا، ومحاسبة السماسرة والجواسيس والعملاء، وزاد عدد الثوار المجاهدين لنحو عشرة آلاف حرموا الإنجليز النوم بعملياتهم المتتالية حتى وصف "ماكدولاند" وزير المستعمرات البريطاني آنذاك فلسطين بأنها" أصعب بلد في العالم " ووصف مهمة المندوب السامي والقائد العام للقوات البريطانية بأنها " أشق مهمة واجهت السلطات البريطانية في أية بلاد أخرى بعد الحرب العظمى ". انطفاء الثورة واندلاع الحرب العالمية الثانية وقد اضطرت بريطانيا إلى إرسال تعزيزات عسكرية ضخمة يقودها أفضل قادة بريطانيا العسكريين، وقامت عمليا بإعادة احتلال فلسطين قرية قرية مستخدمة كافة وسائل البطش والدمار والعقوبات الجماعية، ومستعينة بكافة الوسائل الحديثة. واستمرت الحملة من أكتوبر 1938، وحتى أبريل 1939، وخلال عام واحد قامت القوات البريطانية باحتلال وتفتيش كل القرى الفلسطينية مرتين. ثم بدأت عوامل الضعف والتراجع تظهر على الثورة الفلسطينية بداية من أبريل 1939، ففقدت كثيرا من زخمها بسبب استشهاد معظم قادتها، واضطرار آخرين لمغادرة البلاد.. وبدأت جذوتها في الانطفاء التدريجي حتى خبت بالكلية في أواخر عام1939، وكان من نتائج تلك الثورة العظيمة أن تعهدت بريطانيا بإنهاء الانتداب خلال عشر سنوات ووقف الهجرات اليهودية خلال خمس سنوات، والتشديد في أمر انتقال الأراضي لملكية اليهود.. وقد رفض الطرفان العرب واليهود هذه البنود، ولم تستأنف المفاوضات بسبب اندلاع الحرب العالمية الثانية التي ستفرض نتائجها واقعا جديدا على الأرض في فلسطين، وفي المنطقة العربية بأسرها.