ساهمت بريطانيا وبشكل كبير في تحقيق تطلعات الصهاينة الاستعمارية في الأرض الفلسطينية، حيث قاموا بتدريبهم خلال فترة الانتداب ومدهم بالسلاح، وكلما انسحبوا من منطقة في عام 1948م سلموها إلى اليهود، وانتهت هذه الفترة، والتي سُميت بالنكبة باحتلال اليهود لمعظم أراضي فلسطين وتهجير مواطنيها، وبقيت غزة والضفة الغربية ومدينة القدسالشرقية. مرحلة ما قبل الاحتلال البريطاني لفلسطين أظهرت الدراسات التاريخية أن اليهود فقدوا أي صلة تربطهم بفلسطين لمدة تصل إلى 1800 عام. في هذه الفترة لم يفكروا حتى في سبل العودة إليها؛ وذلك لجذور عقائدية؛ تمثلت في أن الحاخامات كانوا يؤمنون بأن اليهود يستحقون هذا "الشتات"؛ لما ارتكبوه من آثام وخطايا، وأن عودتهم لن تتحقق إلا بعد مجيء "الماشياح" أو "المسيا"، وهو إنسان مثالي من نسل النبي داود عليه السلام، يبشر بنهاية التاريخ، ويخلص الشعب اليهودي من ويلاته. وهنا يبرز الدور البريطاني، فعلى عكس الكنيسة الكاثوليكية التي تعتبر اليهود قتلة المسيح، فإن ظهور البروتستانتية في أوروبا منذ القرن السادس عشر في إطار حركة الإصلاح الديني، أكسب الحركة الصهيونية دعمًا كبيرًا فيما بعد، ويعود ذلك إلى أن البروتستانتيين يؤمنون بما يسمى "نبوءة العصر الألفي السعيد"، والتي تقول بظهور المسيح المنتظر بعد اجتماع اليهود بفلسطين، ليقوم بتنصيرهم، ثم يقودهم في معركة "أرمجدون" التي سينتصر فيها، ليبدأ عهد جديد من السعادة يدوم ألف عام، ونظرًا لانتشار البروتستانتية بأغلبية في بريطانيا والولايات المتحدة وهولندا، وبدرجة أقل في ألمانيا، ستصبح هذه الدول داعمة للمشروع الصهيوني بشكل تلقائي؛ انطلاقًا من خلفيتهم الدينية. وتعود جذور "المسألة اليهودية" في أوروبا إلى نهايات العصور الوسطى، وكان السبب في ذلك هجرة جماعات ضخمة من يهود شرق أوروبا في روسيا وبولندا وأوكرانيا إلى وسط وغرب أوروبا، خاصة بعد إلغاء نظام الأقنان في روسيا في ستينيات القرن التاسع عشر، حيث ظهرت طبقة برجوازية محلية روسية راغبة في إزاحة اليهود من فوق عرش التجارة، فلجأت قطاعات كبيرة منهم للهجرة إلى وسط أوروبا وغربها، وشكلت مصدرًا لإزعاج الحكومات والجماعات اليهودية المندمجة في غرب أوروبا، والتي رغبت بدورها في التخلص من هذا الوافد المزعج. وهنا يقول مؤرخون بأن المشروع الصهيوني لتوطين اليهود في فلسطين لم يبدأ مع تيودور هرتزل أو المؤتمر الصهيوني الأول في بازل 1897 كما قد يظن البعض، ولكن مؤتمر بازل كان نقطة مفصلية بين مرحلتي الصهيونية كدعوة لم تلقَ استجابة كبيرة من الجماعات اليهودية في أوروبا، والصهيونية كحركة مُتكئة على الاستعمار الأوروبي، والبريطاني بخاصة، وهنا جاءت فكرة بريطانيا بتهجير يهود أوروبا، للتخلص منهم من ناحية، وتحويلهم من أعداء ممتعضين من معاملة البريطانيين في بلادهم إلى حلفاء يعتمدون على النفوذ البريطاني من ناحية أخرى، خاصة وأنها بدأت تدرك أهمية وجود جماعة بشرية حليفة لها في الشام، وتتولى هي حمايتها، مثل حماية فرنسا للكاثوليك، وحماية روسيا للأرثوذكس في الدولة العثمانية، وفي 1839 أصدر وزير الخارجية البريطاني ورئيس الوزراء فيما بعد هنري جون تمبل (المعروف باللورد بالمرستون) تعليمات للقنصل البريطاني في القدس بإسباغ الحماية البريطانية على اليهود في فلسطين، وذلك حتى قبل ضرب بريطانيا لمشروع محمد علي لبناء مصر الحديثة عام 1840. ففي ذلك العام انعقد مؤتمر لندن، لرعاية حركة تهجير وتوطين اليهود في فلسطين، وكان العائق أمام الهجرة في ذلك الوقت هو رفض السلطان العثماني عبد الحميد الثاني فتح أبواب فلسطين أمام حركة هجرة يهودية واسعة النطاق. وفي منتصف القرن التاسع عشر كان تحالف بين الرأسمالية اليهودية الكبيرة في أوروبا الغربية والقوى الاستعمارية قد بدأ يتبلور حول تلاقي مصالح الطرفين على ضرورة تهجير الجماعات اليهودية الوافدة بأعداد كبيرة من شرق أوروبا إلى غربها، الأمر الذي شكّل عبئًا على حكومات دول غرب أوروبا، وهدد بتفجير موجة من العداء لليهود فيها. وعد بلفور من أهم المحطات البريطانية التي كرست من خلالها الحركة الصهيونية سفر تكوينها في فلسطينالمحتلة، حيث كان هذا الوعد مقدمة لإقامة إسرائيل على 78% من مساحة فلسطين التاريخية، ووعد بلفور أو تصريح بلفور هو الاسم الشائع المطلق على الرسالة التي أرسلها آرثر جيمس بلفور بتاريخ 2/11/1917 إلى اللورد ليونيل وولتر دي روتشيلد، ويشير فيها إلى تأييد الحكومة البريطانية لإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين. وحين صدر الوعد كان تعداد اليهود في فلسطين لا يزيد على 5% من مجموع السكان، وأرسلت الرسالة قبل أن يحتل الجيش البريطاني فلسطين. الانتداب البريطاني عززت فترة الانتداب البريطاني لفلسطين، والتي امتدت من (1920-1948) من تعاظم التواجد الصهيوني في فلسطين، حيث شهدت هذه الفترة موجات هجرة يهودية مكثفة، منها: موجة الهجرة الثالثة (1919-1923)، وهاجر نحو (35.100) يهودي باتجاه فلسطين، والهجرة الرابعة (1924-1931) وفيها هاجر نحو (78.898) يهوديًّا باتجاه فلسطين، معظمهم من ألمانيا ودول أوروبا الغربية وبولندا، في حين تمت الهجرة الخامسة في الفترة (1932-1939)، وتمت فيها هجرة نحو (224.784) يهوديًّا باتجاه فلسطين، وهي الهجرة الأهم في تاريخ الحركة الصهيونية، ورافقت فترة الانتداب البريطاني أيضًا بناء مزيد من المستعمرات اليهودية، فوصل عددها إلى (110) عام 1927، ما لبث أن ازداد إلى (291) مستعمرة زراعية حتى عام 1948، وهو العام الذي أعلن فيه عن قيام ما يُسمَّى بدولة إسرائيل في 15 مايو. النكبة الفلسطينية لا يختلف الباحثون في القضية الفلسطينية على أن بريطانيا تتحمل الجانب الأكبر لما آلت إليه الأمور في فلسطينالمحتلة، سواء من الناحية الأخلاقية، أو حتى القانونية والسياسية، وذلك لمجموعة أسباب، أهمها أن لوعد بلفور في العام 1917 الأثر المباشر في فتح أبواب الهجرة اليهودية على مصراعيها إلى فلسطين، كما أن بريطانيا عندما أنهت احتلالها لفلسطين في 14 مايو 1948، قامت بتمكين العصابات الصهيونية، التي شكلت نواة الجيش الإسرائيلي فيما بعد، من الاستيلاء على القسم الأكبر من أراضي فلسطين التاريخية، هذا بالإضافة إلى أنه قد ارتكبت 18 مجزرة في فترة الاحتلال البريطاني لفلسطين، وبسبب مساعدة بريطانيا في إقامة دولة إسرائيل، ارتكبت العصابات الصهيونية في عام 1948 (44) مجزرة ضد العزل الفلسطينيين، ذهب ضحيتها (2500) شهيد. بريطانيا مؤخرًا يرى مراقبون أن بريطانيا تحاول في الآونة الأخيرة تقديم نفسها كدولة راعية للسلام بعد كل الانتهاكات التي قامت بها في حق الشعب الفلسطيني، وليس من المعروف ما إذا كانت بريطانيا تقوم بهذه الخطوات على مبدأ صك الغفران، حيث تبنى مجلس العموم البريطاني قرارًا في منتصف شهر أكتوبر 2014، يطالب فيه الحكومة البريطانية بالاعتراف بدولة فلسطين إلى جانب دولة "إسرائيل"؛ ليكون هذا القرار هو الأول من نوعه في تاريخ بريطانيا، ولكن مع الأخذ بعين الاعتبار أن هذا القرار غير ملزم وليس له أي انعكاسات سياسية قانونية. وفي هذا العام الذي يمثل الذكرى المائة لوعد بلفور، قالت رئيسة الحكومة البريطانية تيريزا ماي إنها ستحتفل بهذه الذكرى، في الوقت الذي تزعم فيه لجنة العلاقات الخارجية في مجلس اللوردات البريطاني في تقرير أعدته الأسبوع الماضي رسم سياسة مناهضة لسياسة الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، في منطقة الشرق الأوسط، حيث يقول التقرير إن موقف ترامب من حل الدولتين للصراع الفلسطيني الإسرائيلي ينطوي على كثير من التناقض، ويدعو التقرير للتوقف، بل العزوف عن العلاقات المميزة مع واشنطن، وأن تتوقف بريطانيا عن الاعتماد عن البوصلة الأمريكية.