حالة من عدم الاستقرار السياسي والأمني شابت الأجواء في تركيا خلال الأيام القليلة الماضية، حيث لا تزال حصيلة قتلى تفجير اسطنبول المزدوج، الذي وقع السبت الماضي بالقرب من ملعب نادي بشيكتاس لكرة القدم، تتصاعد، حتى وصل آخر تقدير إلى 44 قتيلًا، بينهم 36 شرطيًّا، فضلًا عن جرح أكثر من 100 شخص، الأمر الذي ألقى بظلاله على الحياة السياسية في الداخل التركي وحتى في سورياوالعراق. عقب الهجوم تعهد الرئيس التركي، رجب طيب اردوغان، بمحاربة الإرهاب حتى النهاية، وقال: أود أن أطمئن أمتي وشعبي، سنحارب هذه اللعنة التي يشكلها الإرهاب حتى النهاية، لن يفلت المسؤولون عن الاعتداءين من العقاب، سيدفعون الثمن غاليًا. وفي الوقت نفسه خرج رئيس الوزراء التركي، بن على يلدريم، ليسير على شاكلة رئيسه، حيث اتهم حزب العمال الكردستاني بتنفيذ التفجير المزدوج، معتبرًا أن الحادث يستهدف وحدة تركيا، وقال يلديرم: ليس لدينا أي تردد في وقوف حزب العمال الكردستاني وراء هجوم اسطنبول. مجددًا عزم تركيا على القضاء على التنظيمات الإرهابية من جذورها. منذ أن أعلنت مجموعة صقور حرية كردستان، القريبة من حزب العمال الكردستاني، الأحد الماضي، مسؤوليتها عن الهجوم المزدوج، لم تتردد الحكومة التركية في تكثيف عملياتها على حزب العمال، سواء بالاعتقالات أو الضربات الجوية على الحدود مع سوريا، حيث قالت المجموعة في بيان إن عنصرين في صقور حرية كردستان نفذا بدقة عالية الهجوم المزدوج المتزامن في العاشر من ديسمبر الجاري، في الساعة 22.30، أمام ستاد فودافون أرينا وحديقة ماشكا، وأضافت أن رفيقينا استشهدا في الهجومين. سريعًا خرجت القوات التركية على اختلاف مستوياتها العسكرية والسياسية؛ لتستهدف أعضاء ومسؤولي حزب الشعوب الديمقراطي، أبرز الأحزاب المناصرة للقضية الكردية في تركيا، حيث أجرت القوات التركية حملة اعتقالات عقب التفجيرات، شملت أكثر من 235 عضوًا بالحزب الشعوب الديمقراطي الكردي. محاولات الانتقام التركية وتصفية الحسابات بين أردوغان والأكراد لم تقتصر على استهداف حزب العمال الكردستاني في تركيا، بل وصلت إلى العراق، حيث ضربت القوات التركية أهدافًا كردية في شمال العراق، بعد أقل من 24 ساعة من وقوع التفجيرات في اسطنبول، وأعلن الجيش التركي أنه ضرب عناصر منظمة إرهابية انفصالية، في إشارة إلى حزب العمال الكردستاني، في منطقة الزاب بشمال العراق، ودمر مقرها وكذلك ملاجئ ومواقع مسلحة. رأى بعض المراقبين أن أردوغان يستغل التفجيرات وتخوف الأتراك من التهديدات الأمنية والاضطرابات المتصاعدة في البلاد لتصفيه حساباته مع الأكراد، وبالأخص مع حزب العمال الكردستاني، حيث سبقت هذه التفجيرات تهديدات من جانب المتحدث باسم تنظيم "داعش" باستهداف نقاط أمنية وعسكرية واقتصادية وإعلامية في تركيا. وعلى الرغم من ذلك اختار الرئيس التركي أن يستبق الأحداث والتحقيقات لمعرفة الجهة الحقيقية المُنفذة لهذه التفجيرات، فقد تكون داعش أو حزب العمال الكردستاني، لكن أردوغان سارع إلى تحميل المسؤولية لحزب العمال الكردستاني، بل وبدأ في تكثيف الهجمات عليه. جاء ذلك على الرغم من تصريحات نائب رئيس الوزراء، نعمان كورتولموش، الذي أكد أن أصابع الاتهام موجهة إلى حزب العمال الكردستاني، لكن لا يمكننا أن نؤكد أي شيء في الوقت الراهن، وأضاف: من الجلي أنهم أحكموا التخطيط لهذه التفجيرات، وبمجرد أن ننهي التحقيقات، سنُصدر بيانًا نذكر فيه ما توصلت إليه الأبحاث. يبدو أن الانقلاب العسكري التركي الفاشل، والذي وقع في منتصف يوليو الماضي، لم يمكن الرئيس التركي من تصفية كافة خصومة السياسيين، فبدأ يبحث عن ذريعة أخرى، يتمكن من خلالها من تصفية باقي خصومة الأكراد، سواء في حزب الشعوب الديمقراطي أو حزب العمال الكردستاني، وهو ما حذرت منه المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، حيث دعت السلطات التركية إلى احترام مبدأ التكافؤ والقانون المعمول به خلال التحقيق في الهجوم الإرهابي في اسطنبول، وأضافت: أستطيع القول إنه يجب بطبيعة الحال أن تكون جميع التدابير التي تتخذ بهدف التحقيق في هذا الصراع الرهيب والدراماتيكي مع الإرهاب متسقة مع سيادة القانون ومبدأ التكافؤ. ربط بعض المراقبين بين تفجيرات اسطنبول الأخيرة وقرب حسم الجيش السوري لمعركة حلب، حيث أصبحت المدينة على أعتاب التحرير الكامل وإعلانها مدينة آمنة للمدنيين، بعد أن أصبحت الجماعات المسلحة تسيطر على ما يقرب من 2% فقط من إجمالي مساحتها، الأمر الذي يعني أن المدينة أصبحت خاضعة للجيش السوري، وهو ما يعني أيضًا خسارة الجماعات المسلحة المدعومة من تركيا لأكبر معاركها وأهم أهدافها في سوريا، حيث انسحبت الفصائل المسلحة المدعومة من تركيا من معظم أحياء المدينة، وسط اتهامات وجهها بعضهم إلى أنقرة وإدارة أردوغان بالخذلان والتقصير في دعمهم ماديًّا وعسكريًّا، خاصة أنهم أطلقوا العديد من نداءات الاستغاثة للدول الداعمة لهم، وعلى رأسها تركيا وأمريكا وقطر، لكن دون تحرك فعال من هذه الدول، أو ربما لأن النتيجة كانت قد حُسمت لصالح الجيش السوري، ولم ينفع فيها أي تلاعب في موازين القوى.