عاتبنى البعض على ما كتبته العدد الماضى تحت عنوان «وَهْم المصالحة الوطنية»، خصوصًا عندما علقت على الدعوات التى أطلقها العديد من القوى الوطنية حول أهمية اندماج الإخوان فى الحياة السياسية، وقلت: «يبدو أن هناك من لم يتعلم الدرس جيدًا واستعصى عليه فهم طبيعة هذه الجماعة».وقال لى أحد الزملاء: «لقد وقعت فى نفس الخطأ الذى ارتكبه الإخوان عندما استبعدوا كل من يخالفهم فى الرأى والأيديولوجيا من الساحة السياسية».. بل إن عددًا من الزملاء اتصل بى لتهنئتى بقدوم شهر رمضان، وحدثنى عن تجربة «نيلسون مانديلا» فى جنوب إفريقيا. كنت أرد على هؤلاء وأقول: وأنتم تتحدثون عن المصالحة وعودة الإخوان للحياة السياسية من جديد، وتقولون «عفا لله عما سلف»، كانت الجماعة تدبر بليل لتوريط الجيش المصرى فى مذبحة أمام دار الحرس الجمهورى، وتحاول أن تضع القوات المسلحة فى موضع الجيش الذى يقتل شعبه.. وكان جهاد الحداد المتحدث باسم الإخوان وغيره يخاطبون الدول الأجنبية والمواقع والصحف والفضائيات العالمية لتشويه المؤسسة العسكرية فى الخارج، ويدعون للتدخل الأمريكى ويطلبون مساعدة حلف الناتو.. وكانت قناة «الجزيرة» المشبوهة تلعب نفس الدور. وعن «وَهْم المصالحة الوطنية» أود أن أوضح بعض الأمور: أولا: ليس من حق أحد أن يقف على باب الحياة السياسية ليقول: هذا يدخل وهذا يخرج، أو هذا مُرَحّب به وهذا غير مرغوب فيه.. وما كتبته عن صعوبة اندماج الإخوان فى الحياة السياسية لم يكن له علاقة بالخلاف فى الرأى أو الأيديولوجيا.. فقط استندت لطبيعة هذه الجماعة والفكرة الحاكمة فى تكوينها.. وقلت إن اندماجهم فى الحركة الوطنية مرهون بمدى تمسكهم بهذه الفكرة. فجماعة الإخوان منذ نشأتها وحتى الآن تعمل فى إطار فكرة حاكمة، وتنطلق من قاعدة راسخة فى عقول المنتمين لها وهى: «الولاء للتنظيم قبل الولاء للوطن».. وهو ما يكشفه تاريخها عبر ما يزيد على 80 عامًا وتؤكده سياساتها فى الحكم خلال العام الماضى. ودللت على ذلك بوقائع تاريخية ثابتة كان فيها الإخوان يقدمون مصالحهم الضيقة على مصالح الوطن العليا ويسيرون عكس اتجاه الحركة الوطنية المصرية. واستشهدت بوقائع لم ينفها الإخوان أو يعتذروا عنها.. فقط كانوا يسوقون المبررات الواهية لتمريرها، ومنها: علاقتهم بالاحتلال البريطانى، والترحيب بالعدوان الثلاثى على مصر، وفصل أعضاء الجماعة الذين طالبوا بالانضمام للدفاع الشعبى لمواجهة العدوان.. ومنها أيضًا «تنظيم سيد قطب» الذى خطط لضرب القناطر الخيرية والكبارى ومحطات الكهرباء إغراق مصر وإظلامها نكاية فى عبد الناصر، وغيرها الكثير. وقلت إن هذه الفكرة الحاكمة لم تتغير يومًا حتى بعد أن وصل الإخوان للحكم، وهو ما دللت عليه بمواقف الجماعة من قضية «حلايب وشلاتين»، ومخططهم للتنازل عن جزء من سيناء لتنفيذ ما يسمونه ب«غزة الكبرى». وأكدت أن عضو الإخوان العراقى أو الليبى أو التونسى أو الماليزى أو الفلسطينى مُفضل على المصرى غير المنتمى للجماعة.. واستشهدت فى ذلك بما قاله المرشد العام السابق مهدى عاكف: «طظ فى مصر وأبو مصر واللى فى مصر»، وما ردده القيادى البارز بالجماعة صبحى صالح عندما قال: «اللهم أمتنى على الإخوان» وغيرها. وخلصت إلى أن هذه القاعدة الحاكمة ستبقى حائلا بين الجماعة وبين الحركة الوطنية المصرية مهما حاول الحالمون. ثانيًا: تنظيف الجرح من الصديد هو أول خطوة للعلاج.. ولم شمل الوطن لن يكون قبل الانتهاء من الملفات الشائكة المفتوحة، أما العبارات الرنانة من عينة المصالحة الوطنية وغيرها دون أن تكون على أسس موضوعية فمن شأنها أن تعود بنا إلى حيث نقف الآن.. بل ستزداد الأمور تعقيدًا. فقبل الحديث عن المصالحات يجب أن يعرف المصريون من المسئول عن دمائهم التى سالت منذ 25 يناير وما زالت تسيل.. خصوصًا وقد استقر فى أذهانهم بعد عام كامل من حكم الجماعة وما أقدمت عليه من جرائم قبل وبعد 30 يونية، أن الإخوان وذيولهم هم المسئولون عن إراقة الدماء منذ «موقعة الجمل» وحتى «موقعة الحرس الجمهورى». فقد ربط المصريون بين القناصة الذين وقفوا أعلى بناية المقر العام لجماعة الإخوان فى المقطم وقتلوا المتظاهرين السلميين الذين تظاهروا أمام مكتب الإرشاد، وبين القناصة الذين وقفوا على أسطح العمارات الموجودة فى محيط دار الحرس الجمهورى، واسترجع الكثيرون كلام حسن الروينى قائد المنطقة المركزية السابق عن قناصة الإخوان الذين اعتلوا أسطح عمارات ميدان التحرير واستهدفوا الثوار لإشعال الأوضاع من جديد بعد أن تعاطف الكثيرون مع خطاب مبارك الشهير. الناس مقتنعون الآن بأن الطرف الثالث الذى قتل الشهيد الشيخ عماد عفت هو الإخوان.. وربط المصريون البسطاء بين تقرير الطب الشرعى الذى أكد أن قاتل عماد عفت أطلق عليه النار من مسافة نصف متر، وبين المشاهد التى ملأت الإنترنت وفيها بعض أنصار الإخوان يطلقون النار على زملاء لهم لإشعال الفتنة وتحريض أعضاء الجماعة على العنف ضد الجيش. كان طبيعيًا أن يتذكر المصريون الأيام السوداء التى عاشوها خوفًا من السجناء الجنائيين الذين هربوا من سجن وادى النطرون وهم يتابعون جلسات محكمة جنح مستأنف الإسماعيلية التى كشفت عن اقتحام ميليشيات حماس السجون بالترتيب مع جماعة الإخوان لتهريب قيادات الجماعة وإطلاق الآلاف من المجرمين على أبناء وطنهم لإشاعة الفوضى للإطاحة بنظام مبارك. كان طبيعيًا أيضًا أن يربط المصريون بين مشاهد إلقاء مشجعى الأهلى من فوق مدرجات استاد بورسعيد وبين المشهد الذى ظهر فيه أحد أنصار مرسى وهو يرمى طفلا لم يتجاوز 15 عامًا من فوق سطح إحدى العمارات فى الإسكندرية.. كما تذكر هؤلاء ميليشيات حماس وهم يلقون بأبناء منظمة فتح من فوق البنايات فى غزة بعد الانقلاب الذى جرى فى فلسطين عام 2007. تذكر الكثيرون الجنود المصريين الستة عشر الذين قُتلوا غدرًا والطعام فى حلوقهم أثناء الإفطار فى رمضان الماضى.. وراحوا يسترجعون هذا المشهد وهم يستمعون لتصريحات محمد البلتاجى القيادى البارز فى جماعة الإخوان الذى وقف يهدد: «إن ما يحدث فى سيناء سيتوقف فى اللحظة التى سيتراجع فيها الجيش عن الانقلاب حسب وصفه وعودة مرسى إلى الحكم»!!. وهل يمكن لعاقل أن يغفل استهداف الجهاديين فى سيناء أنابيب الغاز أثناء الفترة الانتقالية التى حكم فيها المجلس العسكرى، وهى العمليات التى توقفت تمامًا بعد جلوس مرسى على الحكم ثم عادت بعد عزله؟!. ربط المصريون البسطاء بسهولة بين تصريحات البلتاجى وبين مشاهد جنودنا المخطوفين وهم معصوبو الأعين يجلسون على ركبهم ويضعون أيديهم فوق رؤوسهم ويتوسلون للإفراج عنهم.. وتذكروا الكلمات التى لقنها الخاطفون للعريف إبراهيم صبحى فى الشريط المسجل، والتى ناشد من خلالها مرسى القائد الأعلى للقوات المسلحة بوصفه الأب الحنون، وهاجم عبد الفتاح السيسى قائلا: «جنودك يا سيادة الفريق بيموتوا وحضرتك قاعد فى المكتب»؟!!.. وتذكروا أيضًا كلمات مرسى التى طالب فيها بحماية أرواح الخاطفين والمخطوفين!!. بحسابات المكسب والخسارة عرف المصريون أن الإخوان هم المستفيدون من موقعة الجمل وهروب السجناء من وادى النطرون وقتل عماد عفت ومذبحة استاد بورسعيد وقتل جنودنا الستة عشر وخطف الجنود السبعة. لذلك فلن يقبل المصريون أى كلام عن مصالحة تفرط فى الدم، فنحن أمام المئات من المصابين والشهداء الذين سقطوا بفعل جرائم هذه الجماعة.. لقد تحول مئات المصريين من أصحاء إلى أصحاب عاهات مستديمة أو معاقين نتيجة الاقتتال الشعبى الذى حرضت عليه قيادات الإخوان.. ولا فرق هنا بين الضحايا والمصابين من أنصار الجماعة أو معارضيها، فكلهم مصريون. نحن أمام شهداء ومعاقين وأيتام وأرامل وثكالى ليس من حق أحد أن يتصالح فى دمائهم أو أن يفرط فى حقوقهم.. وستبقى جرائم قيادات الإخوان.. وستبقى تصريحات بديع ومرسى والعريان والبلتاجى وحجازى وعبد الماجد وأبو إسماعيل وغيرهم ممن حرضوا على القتل، حائلا بين هذه الجماعة وبين الحركة الوطنية ولن تكون هناك مصالحة إلا بمحاكمة هؤلاء. ثالثًا: ما ارتكبته قيادات جماعة الإخوان من جرائم ترقى إلى الخيانة العظمى فى بعض الأحيان لا ينسحب بالطبع على كل من ينتمى للجماعة، لكن الحرص على اندماج العشرات أو المئات وربما الآلاف من المنتمين للجماعة فى الحياة السياسية مرة أخرى يجب ألا يكون بالتسامح مع هذه القيادات التى حرضت المجتمع الغربى على فرض عقوبات اقتصادية على مصر وطالبت أمريكا بمعاقبة الجيش المصرى ووقف المعونة العسكرية.. بل استجدت مساعدة الكيان الصهيونى. يا سادة: ليس من حق أحد أن يتصالح فى الدم المصرى.. أو أن يغض البصر عن أفعال الخيانة العظمى أو أن يتحدث عما يسمونه بالخروج الآمن بدعوى «عفا لله عما سلف».. وأى شىء من هذا القبيل من شأنه أن يؤكد مسئولية هذه الجماعة عن الجرائم التى ارتُكبت بعد 25 يناير حتى الآن.. ولن يقبل المصريون بالإخوان مرة أخرى قبل إجراء محاكمات عادلة تدين المجرم منهم وتبرئ المظلوم. د. أحمد مجاهد عندما تردد اسم د. أحمد مجاهد وزيرًا للثقافة بعد ثورة 30 يونية، شعرت بأن الثورة تتلمس طريق النجاح، ليس فقط لأن خبرات الرجل التى اكتسبها على مدى تاريخه فى المواقع الثقافية المختلفة صندوق التنمية وقصور الثقافة وهيئة الكتاب وكل منها تمثل وزارة مستقلة بذاتها تؤهله لشغل هذا المنصب الرفيع، ولكن أيضا لأنه مثقف وطنى واع يعرف بل يؤمن بأن الثقافة مقاومة، مقاومة لكل أشكال الجهل والقهر والاستبداد والتبعية. عرفته على مدى سنوات طويلة، كان خلالها ينتصر ل«مجاهد المثقف»، ليتوارى دومًا إلى الخلف «مجاهد الموظف».. ففى 25 يناير كان أحمد مجاهد رئيسًا لهيئة قصور الثقافة ولم يمنعه ذلك من النزول إلى ميدان التحرير ليهتف «الشعب يريد إسقاط النظام».. ولم يمنعه وجوده على كرسى رئيس هيئة الكتاب فى ظل حكومة هشام قنديل من أن يقف بقوة ضد مخططات الأخونة التى راحت تعبث بمؤسسات الدولة ومن بينها المؤسسة الثقافية. بل تحول معرض الكتاب الأخير إلى تظاهرات سياسية وثقافية وفنية ضد الجماعة، لتجد كل رموز الحركة الوطنية والسياسية المناهضة للإخوان ضيوفًا على قاعات وندوات المعرض، ولم يكن غريبًا أن يحتفى أحمد مجاهد بالدكتور ثروت الخرباوى فى أكثر من فعالية، وأن يفوز كتابه «سر المعبد» الذى يفضح عورات وسوءات الإخوان بجائزة المعرض. كان منطقيًا أن يطيح الوزير الإخوانى علاء عبد العزيز بمجرد وصوله إلى كرسى الوزارة بأحمد مجاهد وبكل مثقف وطنى كان يشغل موقعًا ثقافيًا.. وكان منطقيًا أيضًا أن يعود مجاهد للمشهد من جديد بعد30 يونية.