لم يُدهشنى خروج المصريين بالملايين، فالشعب المصرى صاحب أول دولة وأقدم حضارة فى التاريخ، هو القائد والمُعلم كما قال الرئيس الخالد جمال عبد الناصر.. وكنت دائمًا أراهن بعض المتشككين والمحبَطِين، على عبقرية وإبداع الشعب.. وما «حركة تمرد» إلا أحد تجليات هذه العبقرية وهذا الإبداع.. كنت أقول لهؤلاء: لو فشلت «حركة تمرد» فى الإطاحة بالنظام الحاكم، أو انحسرت هذه الموجة الثورية، فسيبتكر الشعب أساليب أخرى، وستكون كلمة مصر هى العليا فى النهاية. وبالفعل عبرت مصر عن نفسها وأثبتت عراقتها، بأكبر تجمع بشرى واحتجاج سياسى شهده العالم عندما خرج ما يقرب من 33 مليون مصرى إلى الشوارع والميادين يطالبون بسقوط حكم الإخوان. ليس هذا فقط.. بل يدير الشعب المصرى الآن معركة الاستقلال الوطنى.. التى سيترتب عليها تشكيل المنطقة العربية من جديد، واسترداد الوطن من براثن التبعية لأمريكا.. وربما يفسر ذلك الارتباك الغربى وتضارب التصريحات الأمريكية.. والتزام الكيان الصهيونى الصمت. لقد قال الشعب المصرى كلمته وأكد أنه قادر على مواجهة أى تحديات.. فمصر التى حررت العالم الثالث من الاستعمار فى الخمسينيات والستينيات قادرة بالطبع على أن تمتلك مقدراتها وتحرر قرارها وتحمى سيادتها.. وتحفظ هويتها التى فشلت قوى الاستعمار عبر التاريخ فى مسخها أو تغييرها. لقد كتبت هنا منذ شهور مخاطبًا أهل الحكم: (استمراركم فى تجاهل مطالب الناس المشروعة وأهداف الثورة التى راح المئات فى سبيلها، ينذر بانفجار.. وقتها لن ينفع الندم، وستلقى الجماعة نفس مصير الحزب الوطنى.. «وسيعلم الذين ظلموا أى منقلب ينقلبون».. نحن أمام كرة ثلج تتدحرج وتتحرك بسرعة فائقة منذ الإعلان الدستورى «الكارثة» الذى أصدره مرسى.. الكرة تكبر يومًا بعد الآخر، وإذا ظل النظام الحاكم فى غيبوبته سيصبح «الجيش هو الحل»). وكنت أؤكد دومًا أن مطالب الثورة فى 25يناير لم تكن مطالب فئوية تتعلق بلقمة العيش فقط، بل خرج المصريون يطالبون بالعيش والحرية والعدالة الاجتماعية وعودة مصر للقيام بدورها الذى يليق بها.. واستشهدت برفع صور وعبارات جمال عبد الناصر، وحرق علم الكيان الصهيونى والولاياتالمتحدة ومحاولات اقتحام سفارة العدو الإسرائيلى. فإذا بالنظام الجديد يصم آذانه ويخيِّب الآمال على المستوى الداخلى، اقتصاديًا.. وخارجيًا يقدم للولايات المتحدة وإسرائيل ما لم يقدمه مبارك فى أزهى عصور الدوران فى الفلك الأمريكى.. وهو ما دفع الملايين للخروج من جديد فى 30 يونية دفاعًا عن ثورة يناير التى التفت عليها أمريكا وطوعتها لخدمة مصالحها عبر حلفائهم فى جماعة الإخوان.. وشاهدنا من جديد صور عبد الناصر ترتفع، والصور التى تجسد أوباما على هيئة مصاصى الدماء وعليها علامة X تنتشر فى مختلف ميادين التحرير. لقد خرج المصريون فى 30 يونية وهم يدركون أنهم يتحركون عكس رغبة البيت الأبيض، الذى راهن على التيارات الدينية فى تونس وليبيا ومصر وسوريا وغيرها لتنفيذ خريطة الشرق الأوسط الكبير.. لشق المنطقة إلى معسكرين أحدهما للسنة والآخر للشيعة. لكن خرج المصريون خير أجناد الأرض يقولون للإدارة الأمريكية: لا.. ويقولون للمعونة: طظ. جيش مصر العظيم وكما كانت ثقتى بالشعب المصرى الذى أفخر وأتشرف بالانتماء إليه ثقة بلا حدود، كانت ثقتى بجيش مصر العظيم.. ولم تهزنى يومًا الهتافات التى مررها الإخوان إلى الشارع الغاضب، وكان يرددها البعض فى الفترة الانتقالية «يسقط.. يسقط.. حكم العسكر» وكنت أفهم جيدًا أن هذه الجماعة تستغل الغضب الشعبى فى الضغط على المجلس العسكرى.. وهو ما أثبتته الأيام. فهذه الجماعة غير الوطنية الدولية فى إطار محاولاتها لافتراس مصر كانت تعلم أن ضرب المؤسسات الراسخة هو السبيل لتحقيق هدفها.. لقد عرفوا جيدًا أن انفرادهم بحكم البلاد لابد أن يمر بالسطو على القضاء والإعلام والأزهر والكنيسة والثقافة وغيرها من مؤسسات الدولة.. وما أن انتهوا حسب ظنهم من تحييد الجيش، بعد الإطاحة بطنطاوى وعنان والانبطاح أمام الإدارة الأمريكية، بدأوا حربهم فى مواجهة هذه المؤسسات. فإذا بالقوات المسلحة تنحاز مرة أخرى للشعب لتؤكد أن الجيش الذى يربى أفراده وجنوده على عقيدة راسخة وهى أنه «جيش الشعب» لا يمكن أن يقف يومًا مع الحاكم ضد شعبه، ولا يمكن أن يكون سيفًا فى يد النظام يصلته على رقاب الشعب. لكن علينا أن ننتبه جيدًا، فغدًا ستجرى فى النهر مياه كثيرة، وستحاك المؤامرات لعقاب هذا الجيش العظيم الذى أربك التوازنات العالمية والحسابات الأمريكية.. ولتبقى ثقتنا فى شعبنا وجيشنا سلاحنا فى مواجهة أية مخاطر وإفساد أى مؤامرات. وَهْم المصالحة الوطنية تابعت خلال الأيام الماضية الدعوات التى أطلقتها بعض القوى السياسية حول أهمية اندماج جماعة الإخوان فى الحياة السياسية وضرورة إجراء مصالحات وطنية.. وغيرها من العبارات الرنانة.. ويبدو أن هناك من لم يتعلم الدرس جيدًا واستعصى عليه فهم طبيعة هذه الجماعة. فمن يقرأ تاريخ الجماعة منذ نشأتها ومواقفها وأولوياتها ويدرس تجربتها فى الحكم يعرف جيدًا صعوبة اندماجها داخل الحياة السياسية المصرية. فجماعة «الإخوان المسلمين» بداية من الاسم مرورًا بطبيعة التكوين ونهاية بالتجربة العملية لحكمها العام الماضى تؤكد أنها تحمل فى طياتها كل عوامل الإقصاء والتمييز والانفصال عن الحركة الوطنية المصرية. وأنا هنا أود أن أشير إلى واقعتين تاريخيتين تكشفان «الفكرة الحاكمة» لدى الجماعة والتى يستحيل معها الاندماج فى الحركة الوطنية.. ليبقى الاندماج متوقفًا على مدى تمسك المنتمين للجماعة بهذه الفكرة.. الأولى: تحالف جماعة الإخوان مع حكومة إسماعيل باشا صدقى الذى كانت تلقبه الحركة الوطنية وقتها ب«جزار الشعب». وهى العلاقة التى تؤكد انحراف الجماعة عن أهداف الحركة الوطنية المصرية التى كان فى مقدمتها مقاومة الاحتلال البريطانى وأعوانه.. ففضلا عن كونه ديكتاتورًا، كان إسماعيل صدقى معروفا بصداقته لليهود، وتعاطفه معهم فى قضيتهم!!!.. كما كان صديقًا للمستعمر البريطانى، وكثيرًا ما صرح بذلك قولا وفعلا. فى ذلك الوقت لم تكن تخرج مظاهرة تعارض حكومة إسماعيل باشا صدقى إلا وتتصدى لها ميليشيات الإخوان بالعصى والسكاكين على طريقة «موقعة الاتحادية».. حتى إن زعيم الإخوان مصطفى مؤمن، أثنى عليه فى خطبته الشهيرة بالجامعة، مستشهدا بالآية الكريمة «واذكر فى الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا»!!. فالمسألة بالنسبة للإخوان لم تكن قضية وطن يقاوم الاحتلال وأعوانه.. بقدر ما كانت تحقيق مكاسب للجماعة تضمن استمرارها وبقاءها فى المشهد.. وربما يفسر ذلك اغتيال الجماعة آحمد باشا ماهر ومحمود فهمى النقراشى المطلوبين على قوائم الاحتلال الإنجليزى لموقفهما المعادى لبريطانيا.. ويفسر ذلك أيضا ترحيب الجماعة بالعدوان الثلاثى على مصر عام 1956 وقيامها بفصل الأعضاء الذين طلبوا التطوع للمشاركة فى مواجهة العدوان. الواقعة الثانية تتعلق بتنظيم سيد قطب المسلح الذى كان يدبر للانقلاب على نظام الحكم الناصرى وخطط لاغتيال الرئيس الخالد جمال عبد الناصر وكبار المسئولين فى مصر وقتها، ونسف القناطر الخيرية وبعض الكبارى ومحطات الكهرباء والمياه لعمل فوضى تؤدى للتدخل الغربى والوصول بالإخوان للسلطة. وأنا هنا لن أتوقف عند محاولات الاغتيال.. لكن أسال: عملية نسف القناطر الخيرية (كان من بين المكلفين بها وقتها محمد بديع المرشد الحالى) بهدف إغراق مصر بأكملها لإشاعة الفوضى وفتح الطريق أمام التدخل الغربى فى البلد.. هل هذا عمل وطنى لفصيل يعارض نظام حاكم أم جريمة وخيانة عظمى؟!! أعرف أن بعض أنصار الجماعة أو مريديها لا يريد أن يصدق والبعض يقول: لا تحاسبونا على الوقائع التاريخية فلكل مرحلة ظروفها.. ولهؤلاء أقول: راجعوا تصريحات قيادات الإخوان وفى مقدمتهم بديع ومرسى وغيرهما التى تسعى لجر البلاد إلى حرب أهلية لبقاء الجماعة على كرسى الحكم.. هل هذه التصريحات تنم عن أى مسئولية وطنية؟!!. يا سادة.. الفكرة الحاكمة فى تنظيم الإخوان: «الولاء للجماعة مُقدم على أى ولاء آخر».. أما الثوابت التى استقرت فى الضمير الوطنى وتوافقت عليها الحركة الوطنية عبر تاريخها ربما تأتى بعد ذلك.. وهذه الفكرة لم تتغير يومًا، وهو ما أثبتته سياسات نظام حكم الإخوان فى العام الماضى، وراجعوا مواقف الرئيس المعزول أو مواقف الجماعة من قضية حلايب وشلاتين مثلا، أو استخدام ميليشيات حماس المسلحة لتخويف الشعب المصرى، وغيرها. بمعنى أوضح.. عضو الإخوان العراقى أو التونسى أو الماليزى أو الفلسطينى مثلا مُفضل على المصرى غير المنتمى للجماعة.. وربما ما قاله المرشد العام السابق مهدى عاكف: «طظ فى مصر وأبو مصر واللى فى مصر» وما ردده القيادى البارز بالجماعة صبحى صالح عندما قال: «اللهم أمتنى على الإخوان» وغيرها من التصريحات التى أطلقتها قيادات الإخوان كانت انعكاسًا لهذه الفكرة الحاكمة فى تكوين الجماعة. ثم ما رأيكم فى محاولات الإخوان استعداء الولاياتالمتحدةالأمريكية على الجيش المصرى وتحريض إسرائيل وأمريكا على عدم الاعتراف بعزل مرسى؟!!.. وما رأيكم فى محاولات عصام الحداد مستشار الرئيس المعزول لدفع الاتحاد الأوربى باتجاه فرض عقوبات اقتصادية على مصر؟!!.. فهل هذه الجماعة تعمل وفق ثوابت الحركة الوطنية؟!!. أفهم طبعا صدق النوايا لدى المطالبين بالمصالحات الوطنية ومحاولاتهم الخروج من الأزمة الحالية.. لكن ذلك يجب أن يتم وفق آليات محددة حتى لا تظل المصالحات الوطنية مجرد طموحات وأمنيات دون أن يكون لها مردود حقيقى على أرض الواقع. فالحركة الوطنية هى الأخرى لها ثوابت وأفكار حاكمة تُعلى من قيم السيادة الوطنية، وترفض الاستقواء بالغرب، وترفض العنف والإرهاب.. ومن يريد أن ينتمى لها ويعمل فى إطارها عليه الالتزام بهذه الثوابت.