في الدول الديمقراطية، يكون الاحتكام إلي صندوق الانتخاب هو الفيصل في الفوز بالمقاعد، أيًا كانت.. برلمانية.. أو رئاسية.. ومنذ انطلاق الحملة الانتخابية بين المرشحين علي المنصب الرئاسي في بلادنا، قلنا، وأكدنا، أننا مع الاختيار الشعبي ،الديمقراطي ، وعبرنا عن ثقتنا الكاملة بما يفرزه الصندوق الانتخابي.. لم نحدد منذ البداية موقفًا مضادًا لأي من المرشحين.. ودعمنا بقوة فكرة تباري المرشحين الثلاثة عشر علي المقعد الرئاسي في مصر، معربين عن إيماننا الكامل بالتجربة الديمقراطية الوليدة في مصر، والمنافسة الحقيقية علي المقعد الرئاسي. وبينما كانت الحملة الانتخابية في أوجها، هالنا ما سمعناه من بعض المرشحين، وخاصة في جولة الإعادة، حين صرح البعض بأن عدم فوزه في الانتخابات الرئاسية يعني أن عمليات تزوير مؤكدة قد جرت للانتخابات.. وهي القضية التي أثارت دهشة الكثير من المصريين الذين فوجئوا بتلك التصريحات التي انطلقت من أحد المرشحين الرئاسيين، وكذلك من بعض أعضاء حملته وحزبه.. وهو ما انتقدناه بشدة، وشاركنا في ذلك قطاعات واسعة من الرأي العام المصري، والكتاب والمحللين والسياسيين، الذين رأوا في تلك التصريحات ما يلحق الضرر بالعملية الانتخابية برمتها، الأمر الذي استثار المستشار فاروق سلطان رئيس اللجنة العليا للانتخابات الرئاسية، والذي قال في معرض إعلانه نتيجة الانتخابات الرئاسية في جولة الإعادة بعد عصر الأحد الماضي 'إن البعض نفذ حملات ممنهجة لخلق مناخ كاذب يوحي بالتزوير إذا لم يفز من أراد فوزه'. ولذلك فإن موقفنا من قضية فوز الدكتور محمد مرسي مرشح حزب الحرية والعدالة - الذراع السياسية لجماعة الإخوان المسلمين - إنما ينطلق من إيماننا الشديد بحق الشعب المصري في اختيار رئيسه، وهو ما يدفعنا إلي التعبير عن تقديرنا للاختيار، طالما نبع من إرادة المصريين، بعيدًا عن التدخلات والألاعيب التي كانت السمة السائدة في المعارك الانتخابية السابقة، إلا أن ما يهمنا في هذا الإطار هو ضرورة تقيد رئيس الجمهورية الجديد بالأطر والضوابط التي تهم الجماعة الوطنية المصرية كلها، في إطار رؤية مجتمعية، تأخذ بعين الاعتبار واقع المجتمع المصري، وتركيبته الديموجرافية، والعمل من أجل تقريب الفوارق، والجنوح بسفينة الوطن نحو الاستقرار، وهو ما يجعلنا نشجع ما ذهب إليه الدكتور مرسي في خطابه الأول الذي ألقاه مساء الأحد الماضي بعد فوزه بالرئاسة، والذي أكد فيه ضرورات المصالحة الوطنية. وفي هذا الإطار، نقول وبصراحة مطلقة، إننا وإن كنا نرحب بالدعوة إلي المصالحة الوطنية، وإشادة الرئيس المنتخب بمؤسسات الدولة، وفي المقدمة منها القوات المسلحة، التي بذلت أقصي طاقاتها من أجل الوصول بالعملية السياسية إلي مرحلتها قبل الأخيرة، وكذلك الشرطة المصرية التي تحاول النهوض بعد الانهيار الكبير الذي أصابها في الثامن والعشرين من يناير 2011، وكذلك السلطة القضائية، التي قوبلت بتهجم من بعض نواب الشعب وبعض الفئات في الآونة الأخيرة، الأمر الذي أثار حالة من الغضب الواسع في أوساط القضاة، ما دفع برئيس المجلس الأعلي للقضاء المستشار حسام الغرياني ورئيس نادي القضاة المستشار أحمد الزند إلي التنديد بالحملة المسعورة علي قضاة مصر.. نقول: رغم إشادة الدكتور مرسي بهذه المؤسسات فإن هذا الأمر لا يبدد المخاوف التي تتكاثر في الأفق، وتنذر بحدوث صدام بين المؤسسة الرئاسية والسلطة القضائية. فقد نُسب إلي حملة الدكتور محمد مرسي أنه لن يؤدي اليمين الدستورية أمام الجمعية العمومية للمحكمة الدستورية العليا بحسب ما تضمنه الإعلان الدستوري المكمل الصادر مؤخرًا، الذي استهدف معالجة تلك الإشكالية، وقيل علي لسان أعضاء الحملة إن الدكتور مرسي سوف يؤدي اليمين الدستورية أمام البرلمان المنحل، وفي هذا افتئات واضح علي حكم القضاء الصادر من المحكمة الدستورية العليا في الرابع عشر من يونية الجاري، الذي قضي بحل البرلمان بعد ثبوت بطلان قانون الانتخاب الذي جرت عليه انتخابات مجلس الشعب الماضية. هذا السلوك - إذا ما حدث بالفعل - سوف يشكل سابقة مدهشة، إذ كيف يتسني لرئيس الجمهورية المنتخب بإشراف قضائي كامل ونزيه، أن يضرب بعرض الحائط حكم القضاء الذي صدر من قضاة لا يرقي إليهم الشك، وكانوا بهيئاتهم التي ادارت الانتخابات الرئاسية، سببًا في بلوغ الدكتور مرسي كرسي الرئاسة؟ سوف يظل أمرًا معيبًا، أن ينهج رئيس الجمهورية المنتخب بإشراف القضاء هذا النهج مع بداية ولايته للحكم رئيسًا للبلاد.. وسوف يدفع هذا السلوك - إذا ما حدث - الكثير من الجهات والمواطنين للتمرد علي أحكام القضاء، وعدم الانصياع لأسبابها، وهو هنا سوف يعرض الموقع الرئاسي، وكذلك الهيئات التابعة لمؤسسة الرئاسة لخطر شديد، جراء تجاوزها أحكام القضاء، والجنوح نحو رفع شعار التحدي في مواجهة قضاء مصر الشامخ، تنفيذًا لأجندة سياسية تحكم العلاقة بين الرئيس الجديد والحزب الذي كان يترأسه، والجماعة التي ينتمي إليها. وبقدر ما نطالب الرئيس الجديد بالاحتكام لصوت القضاء، والخضوع لأحكامه، تكريسًا لمنهج العدالة، والالتزام بأحكام القانون، فإننا نطالبه في الآن ذاته بأن يكون نموذجًا ومثلا وقدوة لأحكام القانون والقضاء والتي بدون التقيد بها سوف نكون أمام عواصف شتي تدفع سفينة البلاد نحو الهاوية، وتخلق ثقوبًا في الجسد الوطني، وتؤجج صراعًا قد لا تحمد عقباه بين مؤسسات الدولة، وخاصة بين السلطتين التنفيذية والقضائية. ونؤكد في هذا المضمار أنه ليس من مصلحة أحد، ونحن نبدأ عهدًا جديدًا من الحكم، أن يقع مثل هذا الصدام، الذي لن يستفيد منه غير المتربصين بأمن مصر واستقرارها، فالوطن في حاجة إلي بلوغ مراميه وأهدافه في أقرب فترة ممكنة وبعيدًا عن الصدامات المتكررة، والأزمات المتجددة. إن موقفنا من الدكتور محمد مرسي، رئيس الجمهورية المنتخب يتحدد علي ضوء التزامه بعدد من المعايير الأساسية، التي يأتي في المقدمة منها: حفاظه علي مبادئ ثورة الخامس والعشرين من يناير، العمل من أجل تخليد ذكري شهداء الثورة ورعاية أسرهم، مد نطاق الرعاية إلي المصابين منهم، والمضارين في عمومهم من شباب الثورة.. بالاضافة إلي العمل علي دفع مسيرة الثورة نحو تحقيق جل أهدافها، وأن يتبني معايير الدولة الوطنية أساسًا للتعاطي مع المجتمع المصري. وفي هذا فإن الدكتور محمد مرسي مطالب بإعلان تخليه الكامل عن جماعة الإخوان المسلمين، والانفصال عن مسارها، تأكيدًا لحياديته بين طوائف الوطن، وأن ينأي بنفسه عن أي ارتباطات تخلط بين دوره رئيسًا لكل المصريين، والتزامه الفكري مع جماعة الإخوان المسلمين. إن ما نقوله اليوم للدكتور محمد مرسي هو ما رددناه ذاته كثيرًا علي مسامع الرئيس المخلوع حسني مبارك، حين طلبنا منه التخلي عن رئاسة الحزب الوطني، وأن يكون رئيسًا لكل المصريين، وهو أمر تشارك فيه معنا جماعة الإخوان المسلمين، وبالتالي، فمن الأولي للدكتور مرسي أن ينهج النهج ذاته حتي يحظي بقبول كل المصريين في تلك المرحلة الفاصلة من تاريخ الوطن. ويتطلب ذلك أن يمد يده إلي الجميع، وأن يحرص علي عدم اتخاذ خطوات من شأنها تغيير جينات الدولة، من خلال استبدال عناصرها في المواقع المؤسسية المختلفة، عناصر تابعة لجماعة الإخوان المسلمين بعناصرها، وأن يتعامل مع جميع طوائف المجتمع بصفتهم أبناء للوطن، ورافعًا شعار المواطنة للجميع، دون تمييز بينهم.. وأن يعمل علي تجاوز المواقف الانتقامية كما حدث من البرلمان المنحل الذي قدم نموذجًا مرفوضًا، وانتقائيًا في الممارسة التشريعية داخل مجلس الشعب، الأمر الذي إدانته المحكمة الدستورية العليا في حكمها الصادر في الرابع عشر من يونية الماضي حين وصفت في حكمها وبعد أن انتهت إلي عدم دستورية ما سمي بقانون العزل السياسي بأن ما جري من مجلس الشعب هو 'انحراف تشريعي' وذلك في وصف تطلقه المحكمة الدستورية العليا للمرة الأولي في أحد أحكامها. وفي هذا نقول إن معارضتنا لبعض من سياسات ومواقف الدكتور محمد مرسي، لا تستهدف شخصه، بقدر ما جاءت رد فعل علي الكثير من خطاباته ومواقفه، وآرائه، التي أدلي بها خلال الحملة الانتخابية. لقد أفزعنا ما نُسب إلي بعض قيادات جماعة الإخوان المسلمين حول ما وصفوه بتحالفهم الاستراتيجي مع الولاياتالمتحدة.. وفي هذا نؤكد رفضنا الكامل للتبعية، والعلاقات الخاصة مع الولاياتالمتحدة، كونها لا تزال تحمل منهجًا للهيمنة، والسيطرة علي دول العالم المختلفة.. ولعل نظرة فاحصة علي ما جري من حولنا في عدد من بلدان العالم العربي، ليؤكد هذه الحقيقة.. فالولاياتالمتحدة لم تكن أبدًا داعية للخير، أو السلام مع الدول العربية، بل كانت ولا تزال محورًا للشر، تجيد حياكة المخططات، وتنفيذ المؤامرات.. ولعل قضية التمويل الأجنبي التي ضبطتها الأجهزة المصرية جسدت الصورة الحقيقية لعمليات التدخل الأمريكي الصارخ في الشأن الداخلي المصري، وانتهاك السيادة المصرية. وعلي هذا فإن الدكتور محمد مرسي رئيس الجمهورية المنتخب مطالب بتحديد الموقف من قضية التبعية، ورأيه في تصريحات بعض قيادات جماعة الإخوان المسلمين عن التحالف الاستراتيجي مع الولاياتالمتحدة، ونري أن الأجدي أن يؤكد الدكتور مرسي حرصه علي سيادة الدولة الوطنية، ذات المرجعية الإسلامية، والتي يجب أن يعلو فيها صوت القانون والكرامة علي ما عداه. سيبقي انحيازنا الأصيل إلي الاستقرار والأمن، والحرص علي كرامة الوطن وسيادته واستقلال اراضيه.. وبقدر ما يحافظ الدكتور محمد مرسي علي الثوابت الوطنية الجامعة، بقدر ما سيتحدد موقفنا من سياساته، سلبًا أو إيجابًا، داعين له بالتوفيق في مسيرته بوصفه أول رئيس لمصر بعد الثورة، فاز بأصوات مصرية نزيهة.